هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وزير الخارجية المصري سامح شكري مشهود له بمواقف دراماتيكية، يرقى الكثير منها إلى الميلودراما، ناجمة عن كونه صوت سيّده على منوال غالبية حاملي هذه الحقيبة في أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، في المقام الأول؛ ولكنها، في المقام الثاني، ليست بعيدة عن، أو من المنطقي أن تعكس، تمثيل شخصيته المولعة بالأداء المسرحي.
يُذكر له، مثلاً، أنه خلال أحد المؤتمرات الصحفية أبعد ميكروفون قناة «الجزيرة» عن الطاولة الحاشدة بميكروفونات شتى، ثم ألقى به إلى الأرض؛ وذلك تجسيداً لقرارات مقاطعة قطر التي كان نظام عبد الفتاح السيسي قد انخرط فيها، صحبة السعودية والإمارات والبحرين.
انسحابه، مؤخرا، من الجلسة الافتتاحية لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، احتجاجا على تسليم الرئاسة إلى نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية؛ لم يكن من طينة واقعة الميكروفون لجهة الوفاء بالميلودراما، ولكنه في المقابل ظلّ أميناً للنزوع المسرحي الذي دأب عليه شكري.
لقد علم مسبقا أن المنقوش ستترأس الجلسة، ولكنه حضر وجلس واختار أن ينسحب لحظة وصول الوزيرة الليبية إلى سدة الرئاسة. وعلم، كما يعلم جيداً ودائما، أن الأمين العام للجامعة هو صوت سادته في الرياض وأبو ظبي أساسا، وأن هؤلاء السادة لم يقرروا الانسحاب وإلا لاستُبعدت المنقوش قبل انعقاد الجلسة. وكان، أخيرا وليس آخرا، يعلم أن الزعم بانتهاء ولاية حكومة عبد الحميد الدبيبة تناقضه مزاعم أخرى تؤكد شرعية بقائها حتى تنظيم الانتخابات، طبقاً لاتفاقيات تمّ إبرامها في باريس والصخيرات وسواها.
غير أن سلوك شكري ليس سوى تفصيل تراجيكوميدي، ما دُمْنا في سياق مصطلحات المسرح، بالمقارنة مع التفاصيل الأشدّ جسامة والأكثر انطواء على مخاطر راهنة وأخرى وشيكة أو ينذر بها المستقبل القريب؛ جراء تكريس حكومة أولى في طرابلس يقودها الدبيبة وأخرى في طبرق ترأسها فتحي باشاغا بقرار من البرلمان، وما يتفرّع عن هذا الانشطار الثنائي من انقسامات متعاقبة تصنعها سلطات وصلاحيات رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. هذا فضلاً عن ضباط مجموعة الـ5+5 في ما تبقى لهم من أصداء حضور الغائب، وضباط على شاكلة أبو راس والضاوي والتاجوري والجويلي ممّن قادوا أو سوف يقودون تجارب اجتياح العاصمة بالنيابة عن مطامح باشاغا وصالح وربما بالأصالة عن المشير الانقلابي خليفة حفتر في الخلفية المعتمة.
فوق هذا وذاك فإنّ فسيفساء انشطارات القوّة هذه لا ترقى، إلا في هوامش استدراكية ضئيلة، إلى الشطرنج السياسي والعسكري والميليشياتي الذي تنخرط فيه قوى تشمل مصر والإمارات والسعودية وروسيا وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا؛ ومجموعات مسلحة أو إرهابية تمرّ من «تنظيم الدولة» المنتعش والمزدهر والمنتشر في الجنوب، ولا تنتهي عند مرتزقة «فاغنر» الروسية ورفاقهم في الارتزاق من المجموعات التشادية والسودانية. وأمّا خارج اليابسة، في عباب البحر الأبيض المتوسط، فالتحالفات المصرية/ اليونانية/ القبرصية/ الإسرائيلية في ميادين استثمار الغاز لا تواجه المنافس التركي في المياه وحدها، بل كذلك في هدير مسيّرات «بيرقدار» التي تؤرّق جنرالات باشاغا وحفتر مثلما تُطمئن نظرائهم في صفّ الدبيبة.
وهذه حال تعيد الذاكرة إلى أي أثر متبقٍ من «الخط الأحمر» الذي رسمه السيسي ذات يوم غير بعيد، وحدّد أمن مصر القومي في تجاوز محور سرت والجفرة؛ بحيث يلوح اليوم أن المسرح الذي يمثّل على خشبته أمثال الوزير المصري شكري هو الشطرنج الأبرز الذي تدير القاهرة حركاته، بين عقيلة/ باشاغا/ حفتر من جهة أولى؛ ولعله، من جهة ثانية، أطلال نظرية السيسي حول «شرعية» تدخّل مصر في ليبيا. وأمّا مصائب أبناء ليبيا، المعيشية والإنسانية قبل السياسية والعسكرية، فإنها ليست في حسبان الخطوط الحمراء، ولا حتى على خشبة المسرح.
(القدس العربي اللندنية)