مقالات مختارة

السيسي والأزمة الاقتصادية

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

متى تصبح الأزمة الراهنة أكبر من مجرد ذلك؟ أي متى تتجاوز راهنيتها؟ أليس من المشروع، بل المنطقي تماماً أن نزعم أن أي أزمةٍ تقترب من العِقد من الزمان أو يزيد تصبح مزمنةً؟ وهل يتصور عاقلٌ أن التعامي والتجاهل و«الاستعباط» كفيلة جميعها بحل أزمةٍ خانقة وترحيلها، في حين أن الناس يشعرون بها في كل لحظةٍ حارقةً خانقةً مؤلمة؟


بالطبع فإن الإجابة نفيٌ أكيد، على الرغم من أن الشواهد تدل على كون النظام المصري، انصياعاً لأوامر السيسي وتوجيهاته، من دون شك، يتعامل مع الشأن الاقتصادي والسياسي طيلة الوقت من هذا المنطلق: التغابي والتعامي والتظاهر بالسيطرة وادعاء التفاؤل، وبالطبع فإن ذلك مشفوعٌ بدعم الحليف التقليدي، القديم العتيد، الذي لم تفقد الأنظمة المتعاقبة على مرّ الحقب والعصور الأمل ولا الثقة من التعويل عليه: الفرج.. ذلك الذي سيأتي من الله في صورة حادثٍ عارضٍ تماماً، معجزة، لا شأن ليد البشر المخططين ومجهودهم به، لكنه آتٍ لا محالة لينقذ المصريين من أزماتهم.

 

بعيداً تماماً عن ادعاء الحكم بأثرٍ رجعي، ومنحين جانباً طبيعة النظام القمعية مفرطة العنف والدموية، فإن المتأمل المراقب المحايد المتجرد من أي عاطفةٍ، المتخفف من أي غضبٍ أو ثاراتٍ قديمة، لا يملك سوى الدهشة من مجمل المنحى الاقتصادي للنظام المصري، منذ مجيء السيسي؛ لست بحاجةٍ لأن تكون خبيراً اقتصادياً متبحراً في نظرياته المختلفة لكي تدرك أن بلداً ينفق أكثر بمراحل مما ينتج، يستدين ما استطاع، حتى وصل إلى مرحلةٍ بات جل إنتاجه بالكاد يكفي خدمة الدين، وينفق تلك الأموال في مشاريع غير منتجة، ضئيلة الجدوى (إن لم تكن عديمتها في حقيقة الأمر) سيصل في نهاية المطاف إلى الدوران في دائرةٍ مغلقة وتصاعدٍ حتمي لأزمته الاجتماعية، والمزيد من المعاناة للجمهور، ناهيك من الإفلاس متى توقف المقرضون عن إسعافه. لكن هذه الخلاصة البسيطة، تم غمرها بطوفان من الأكاذيب والجدل الذي لا ينتهي، وضجيجٍ إعلامي يحتفي بهذا الجسر وذلك الممشى، في تسجيلاتٍ لا تنتهي من زوايا عديدة، وموسيقى مصاحبة ومسلسلات مثل «الاختيار» ما مكّن من تناسيها، أو التصديق بأسطورة التحسن المقبل. الكل يعلم والكل يصمت، إما تواطؤاً أو خوفاً، فلا يجرؤ أحد عن الحديث عن الفيل الضخم الأخرق المدمر في الغرفة، بل يلقون بالتبعة على مؤامراتٍ إخوانيةٍ وكونيةٍ وصدفٍ سيئة وحروبٍ في أماكن أخرى، كل شيء إلا الفيل الأحمق. لكن الآن، ومع تفاقم الأوضاع، واتساع الفتق على راتقي الحكومة من أنصارها وإعلامييها، لم يعد هناك مفر من المواجهة والاعتراف بأن هناك أزمةً، إنها مخيفة محيقة وإننا ننزلق إليها، مع ادعاء أن إجراءاتٍ محكمة وناجعة قد اتُخذت لمواجهة الأزمة وتلافي الكارثة.

 

 

كثيراً ما يثار تساؤل: أخليت مصر من الاقتصاديين الذين كان بمقدورهم التنبؤ بعواقب ذلك المسار الوخيمة والتحذير منها؟ أأجدبت؟ والإجابة بالقطع هي لا، بل العكس هو الصحيح، فإنها عامرة بالمؤهلين لذلك. ليست مشكلة مصر في الكوادر، بل مشكلتها في طبيعة النظام من الأساس، وفي إفلاس البورجوازية المصرية وضعفها الذي جعلها لا تجد حلاً لأزمة سيطرتها الطبقية سوى نظامٍ كهذا.

 

مشكلة مصر في نظامٍ، مؤسسة الرئاسة فيه كلية القدرة والسلطات، وما مسار الإنفاق والبذخ إلا التعبير عن ذهنية السيسي وضباطه ونهمهم، كما أنهم مسكونون بحب السيطرة التامة وكراهية المشاركة السياسية وحرية التعبير التي يرونها صنو الفوضى والانفلات (وهو وجهة الاتفاق الرئيسية بين الجيش والبورجوازية التي يعبر عن مصالحها) حتى أوصلهم ذهنهم إلى عسكرة الاقتصاد، كحجرٍ قادرٍ على ضرب كل تلك العصافير، والوسيلة المثلى للسيطرة الشاملة، وربما في ذلك قدرٌ من الصواب، وبالتالي فإن الاقتصاديين يوظفون خبراتهم ويكيفون علمهم لخدمة مشروع السيسي ورجاله ورغباتهم ونزواتهم، لا ما يرونه الأنسب، فانحيازهم للسيسي لا الصالح العام والتنمية أياً كانت مشاربهم والمدرسة الاقتصادية التي ينتمون إليها، أو التي انتموا إليها يوماً ما قبل أن يقتربوا من السلطة.


كذلك الإنفاق والتوكل على الله أن يمن فيفتح علينا من واسع رحمته وعطائه، ذلك متلائمٌ تماماً مع ذهنية شخصٍ كالسيسي، لم يخف علينا حواراته الطويلة والمباشرة مع الذات العلية. لكن، ويا للمفاجأة، فإن تلك «الوصفة» لم تنجح ولم تؤت الثمار المرجوة (تلك التي كان المنطق وحده كفيلاً بتأكيد أنها لن تأتي)، فالجنيه في انخفاضٍ مستمر والأسعار تقفز صاعدةً والناس متبرمون ساخطون، ولم تعد الوعود تكفي ولا التعلل بالحرب الروسية الأوكرانية، فلم يعد هناك مفر من المواجهة والمصارحة بالواقع القاسي. كعادته وما يتواءم مع أفكار السيسي والطبقة الحاكمة، فقد لجأ، في محاولةٍ أخيرةٍ ربما، لتحميل المسؤولية على الشعب وعلى ثورة يناير، كما لو كانت اندلعت من فراغ.

 

يجري النظام الآن مشاوراتٍ مع صندوق النقد الدولي، ولئن وافق فلن يكون ذلك أكثر من دفقة دمٍ قد تخفف الوضع لمدةٍ قصيرة، لن يلبث بعدها أن يعود يبحث يائساً كالمدمن عن قرضٍ آخر، ولعلني لست أبالغ إذ أقول إن النظام يشمر ساعديه استعداداً لمرحلةٍ من التوتر والاحتقان الشديدين، فليست لديه حلول تقصر من عمر الأزمة، بل لعله من الأدق أن نقول إنه ليست لديه حلول، أو إن الحلول لا تناسبه لأنها تستلزم تقديم تنازلاتٍ هو غير مستعدٍ للإقدام عليها ورحيل الفيل الغبي؛ لذا فقد أطلق ذلك الحوار الموازي مع القوى المدنية، وها هو يتقرب من الناس محاولاً إيجاد مبرراتٍ ملفقة، لكن مقنعة للأزمة ليتخلص بها من مسؤولية الفشل والإسراف والسفه، ولم يزل يرتكن إلى القمع واحتكار أدوات العنف.


في تصوري فإن ذلك «الحوار» مع القوي المدنية شيءٌ هامشي يدور في عالمٍ موازٍ تماماً، وبعيداً عن إرضاء بعض القوى والذوات، فإنني لا أعتقد أنه سينجح في استيعاب أو امتصاص غضب الشارع، وكذلك الحال مع الوعود بالفرج.


في النهاية، لن يجد النظام مفراً من اللجوء إلى الإرهاب والعنف سلاحاً وحيداً وأخيراً، وإنني لأتوقع، رغم ما قد يبدو من محاولاتٍ موازيةٍ للتهدئة، شقاءً ومعاناةً ودماً كثيراً في الفترة المقبلة.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)