هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تاريخان اثنان يلخصان مأساوية المصير المظلم المفزع الذي صرنا نحن البشر مقبلين عليه أو ماضين إليه دون أي رغبة في التفكير فيه، ناهيك عن الاستعداد لمواجهته وعمل ما يلزم لدرء مخاطره الداهمة. الأول هو 28 يوليو، والثاني 15 نوفمبر. كل منهما يؤكد الآخر ويكمله ويواطئه على إغلاق دائرة القدر البشري. ومن الطريف أنه يبدو كما لو أن هذين الرقمين قد تحالفا لمناقضة البيت الشهير “إن كان يوليو في الشهور كبابنا فشفيع يوليو، في الشهور، نوفمبر” الذي اختزل به الشاعر الجزائري مفدي زكريا تاريخا وطنيا من الانكسار والانتصار.
في 28 يوليو الماضي بلغ كوكبنا الأرضي ما يعرف بـ”يوم تجاوز الحد” أو يوم بدء الإفراط، وهو اليوم الذي تبين فيه الإحصائيات أن الإنسانية قد استنفدت نصيبها من الموارد الطبيعية لذلك العام، أي الموارد التي تستطيع الطبيعة إعادة إنتاجها طيلة عام كامل، من ماء وتربة وهواء نقي وثروة برية وبحرية، لأن الطبيعي، لو بقيت الإنسانية تعيش (مثلما كانت) في انسجام مع البيئة، هو أن يحل هذا اليوم في 31 ديسمبر من كل عام. لكن التوازن البيئي الذي ظل قائما آلاف السنين قد بدأ في الاختلال منذ أكثر من نصف قرن، لأن تجاوز الحد البيئي قد بدأ، تحديدا، عام 1970. حيث حل يوم تجاوز الحد عامئذ في 30 ديسمبر. أما عام 1976 فقد حل في 17 نوفمبر، وعام 1987 في 23 أكتوبر. وقد استمر التدهور على نحو متسارع ليحل يوم تجاوز الحد عام 2006 في 18 أغسطس، والعام الماضي في 29 يوليو وهذا العام في 28 يوليو. أي أن الإنسانية قد أدمنت العيش على الديون البيئية بحيث صارت تنفق ميزانية عام كامل في مجرد 7 أشهر!
وما يعنيه هذا أن الإنسانية تحتاج ضعف مساحة الكرة الأرضية لمواصلة العيش بهذه الوتيرة الاستهلاكية الطائشة. وكانت الدراسات قد أشارت منذ عقود إلى أنه لو سارت الإنسانية كلها سيرة الاستهلاك والتبذير السائدة في الولايات المتحدة لصرنا في حاجة إلى عشرة كواكب أرضية وأربعة كواكب أخرى للنفايات فقط! أما لو تم اليوم تعميم النظام الاستهلاكي الأمريكي على العالم كله، فإن يوم تجاوز الحد سيحل في 13 مارس! شهران ونصف فقط وتبدد موارد العام كله! لكن ثمة ما هو أدهى: إذ لو عمم نمط الاستهلاك الخليجي على كامل البشرية، فإن يوم تجاوز الحد سيحل في 10 فبراير، أي أن البشرية ستلتهم ميزانية العام كله في مجرد أربعين يوما!!
والدليل على أن أسلوب العيش المعاصر هو السبب الوحيد لانخرام النظام البيئي أن عام 2020 قد كان عاما استثنائيا لأنه سجل فيه تحسن ملحوظ، مقارنة مع كل الأعوام الخمسة عشر السابقة (رجوعا إلى 2005): حيث حل يوم تجاوز الحد عام 2020 في 22 أغسطس (!) أي بزيادة 26 يوما على العام السابق (2019)، وبزيادة 23 يوما على العام اللاحق (2021). لماذا؟ لأن معظم البشرية لزمت البيوت معظم عام 2020 امتثالا لإجراءات الحجر، فقلّ نتيجة لذلك استهلاك الموارد الطبيعية وتناقصت كميات الانبعاثات والمنفوثات داخل الغلاف الجوي.
ذلك هو 28 يوليو وأخباره. أما 15 نوفمبر فقد بشرنا بأنه لن يحل بيننا إلا وقد بلغ عدد سكان الكوكب 8 مليارات نسمة! أي أن عدد سكان العالم قد قفز (من 4 مليارات نسمة عام 1974) إلى الضعف في أقل من نصف قرن. أي أن “الانفجار السكاني” أو “القنبلة الديموغرافية” ليسا مجرد تعبيرين من التعابير المجازية الشائعة، بل إنهما تعبيران تقريريان يحيلان إلى واقع ملموس ومشهود. ذلك أن من عجائب قصة الإنسان أن عدد سكان الكوكب من بداية التاريخ حتى نهاية القرن 17 لم يكن يتجاوز مئات الملايين، ولم يكد يبلغ المليار إلا حوالي عام 1800. لكن الثورة الصناعية هي التي دشنت الانفجار الديموغرافي، حيث تضاعف عدد السكان إلى مليارين بحلول 1930، وها هو اليوم (بعد أقل من قرن واحد) قد تزايد إلى أربعة أمثاله. ذلك أن القرن العشرين قد كان القرن الحاسم في هذا الشأن، حيث تفوق على التاريخ البشري كله بأن زاد عدد السكان من مليار و600 مليون نسمة فقط عام 1900 إلى 6 مليارات عام 2000!
وقد وضع أمين الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش المشكلة في نصابها عندما قال إن من الجدير أن يكون يوم السكان العالمي (11 يوليو) فرصة “لنعمل جميعا على حماية الحقوق الإنسانية وحماية حرية الناس جميعا في اتخاذ قرارات مدروسة بشأن ما إذا كانوا يريدون إنجاب أطفال وبشأن التوقيت إذا كان ذلك ما يريدون”.
فعلا، لقد صارت الإنسانية، أفرادا ومجتمعات، ملزمة اليوم باتخاذ أخطر القرارات المدروسة: هل الاستمرار في الإنجاب عمل مقبول أخلاقيا؟ وإذا كان كذلك، فهل هو عمل مستدام بيئيا؟