بعد خمسة أشهر من بدء الحرب الروسية
علي أوكرانيا، لا تزال المعارك مشتعلة في شرق أوكرانيا مع عدم حسم روسيا لأهدافها
المعلنة بعد، وعدم قدرة أوكرانيا المدعومة بما يفوق 70 مليار دولار من المساعدات
العسكرية الأمريكية والغربية، علي منع التقدم الروسي.
ومع استخدام روسيا ببراعة سلاحي
النفط والغاز، تلاشي التفاؤل الغربي المبكر بأن هزيمة روسيا في أوكرانيا حتمية،
وتلاشي اليقين في تشكيل جبهة عالمية تعارض الخطوة الروسية تضم قوي غير غربية مثل
الصين والهند والبرازيل.
ورغم ما يجمع روسيا والصين من إرث
عدائي وتنافسي، إلا أن بيكين اختارت الحياد الإيجابي تجاه روسيا مفضلة علاقاتها
التجارية الواسعة معها علي ضغوط الغرب، وهي نفس النتيجة التي حسمتها الهند
والبرازيل والكثير من القوي الإقليمية حول العالم مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا
وإندونيسيا.
لم يدعم الموقف الأمريكي المتشدد
تجاه روسيا سوي دول حلف الناتو ــ باستثناء تركيا والمجر ــ ومجموعة «G7» التي تضم معها
كندا واليابان وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا.
تمثل أزمة أوكرانيا في أحد جوانبها
تحديا وجوديا للنظام الدولي الذي دشنت له ودعمته وهيمنت عليه واشنطن منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.
تتفق روسيا والصين بالأساس، ومعهما
إيران، علي ضرورة مواجهة ما يعرفه العالم من هيمنة غربية تقودها الولايات المتحدة.
وتؤمن هذه الدول أنه علي الرغم من قوة مجموعة الدول السبع التي تمثل 45٪ من الناتج
المحلي الإجمالي العالمي، و52٪ من حجم الإنفاق العسكري العالمي، إلا أن هذا التكتل
يمتلك في الوقت ذاته نقاط ضعف هيكلية.
• •
•
اعتبر المفكر الأمريكي والتر راسيل
ميد أن هناك ثلاث نقاط ضعف في النظام الغربي المُسيطر عليه أمريكيا تمنح الدول
الرافضة له بعض الأمل في سعيهم لتحدي بنية النظام العالمي، وإنهاء هيمنة واشنطن
عليه.
أول هذه النقاط يتعلق بالجانب
الاقتصادي الحمائي الذي تتجه إليه أمريكا وغرب أوروبا، وقد دشن لهذا الاتجاه بصورة
واضحة الرئيس السابق دونالد ترامب.
تقلل السياسات التجارية الحمائية من
الجاذبية الاقتصادية للنظام الغربي بالنسبة للكثير من دول العالم الثالث
والاقتصاديات الصاعدة. ودعمت سياسات ترامب المعروفة باسم «أمريكا أولا» في جانبها
الاقتصادي والتجاري من جاذبية النموذج الصيني علي النموذج الأمريكي في العديد من
أقاليم العالم.
ثاني هذه النقاط يتعلق بالقيم
والمبادئ التي ينادي بها الغرب ويدعي التمسك بها وعلي رأسها عالمية قضايا حقوق
الإنسان والتغيرات البيئية. إلا أن نظرة سريعة علي سجل الإدارات الأمريكية
المتعاقبة، وإدارة بايدن علي رأسها، يري العالم تناقضا واضحا في ادعاءات الغرب
والولايات المتحدة. ومثل لقاء بايدن الأخير بقادة المملكة العربية السعودية وولي
عهدها دليلا كافيا لإبراز الخواء الأخلاقي الذي تنادي به واشنطن وتطلب من العالم
الالتزام بمعايير حقوق الإنسان لا تلتزم هي بداية بها كما يظهر في سياساتها
الخارجية.
وفيما يتعلق بالقيم تنادي الولايات
المتحدة والدول الغربية بالمساواة في عالم اليوم، إلا أن نظرة سريعة علي تشكيل
عضوية الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن نجد عدم وجود ممثل للملايين من الأفارقة أو
الشعوب الآسيوية واللاتينية، في حين يمثل أوروبا وحدها ثلاث دول هم فرنسا
وبريطانيا إضافة لروسيا.
وثالث العقبات التي تمثل تهديدا
كبيرا للنظام العالمي الغربي ما نراه بوضوح في استعار «الحرب الثقافية» داخل
المجتمعات الغربية وعلي رأسها المجتمع الأمريكي. وعليه ففاقد الشيء لا يعطيه، ومع
استعار الصراع حول قضايا مثل الإجهاض وحق حمل السلاح والعنصرية وحقوق المثليين
والمثليات والمختلفين والمختلفات جنسيا، ودور الدين في المجتمع، يصبح من العسير علي
الولايات المتحدة أو الغرب التبشير بنموذج اجتماعي أو نسق أخلاقي عالمي حيث ترفض
أغلبية دول العالم التوجه الغربي فيما يتعلق بالحقوق والحريات الجنسية لمواطنيها
ومواطناتها. ويتساوي هنا المجتمعات الصينية والروسية مع نظرائها في السعودية
وإيران ونيجيريا وإندونيسيا، وأغلب دول الجنوب.
• •
•
لا يدعم الانقسام السياسي الأمريكي
الداخلي والمتزايد بين الجانبين الجمهوري والديمقراطي النظام العالم المهيمن عليه
أمريكا، بل يسهل من مهمة روسيا والصين في تحديه.
وعلي الرغم من الاتفاق العام في
ملفات السياسة الخارجية بين الحزبين علي ضرورة مواجهة الصعود الصيني والتهديدات
الروسية، يقف الحزبان عاجزين أمام نفوذ الشركات الأمريكية ورأس المال الساعي لمزيد
من الاعتماد المتبادل اقتصاديا وتجاريا وماليا، وتجاهل الجوانب السياسية
والأخلاقية في علاقاتهم بالصين وحتي روسيا. وسمحت طبيعة العاصمة واشنطن وانفتاحها
من خلال آلية اللوبيات القانونية وغير القانونية علي وجود جيش من أصحاب المصالح،
الكثير منهم أعضاء سابقون بالكونجرس، الذين يخدمون أجندات صينية دون اكتراث
بالمصالح الأمريكية أو بالنظام الدولي الذي ترغب الصين في تغييره لصالحها.
كما تقود شركات أمريكية كبري مثل وول
مارت وآبل ومايكروسوفت لوبيات واشنطن من أجل التشبث بعلاقات تجارية مع الصين
تتجاهل أي قيم تدعيها الولايات المتحدة أو الغرب. وتسهم هذه الشركات بصورة غير
مباشرة في تغيير بنية النظام الدولي لنظام جديد ستكون هي ذاتها علي رأس ضحاياه.