هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليست المرة الأولى التي يدخل فيها أتباع السيد مقتدى الصدر المنطقة الخضراء، ومؤكد أنها لن تكون الأخيرة، ومن الضروري التركيز على مفردة «يدخل» هنا، فنحن أمام عملية معدة مسبقا، وليست اقتحاما!
ولمن لا يعرف المنطقة الخضراء فهي معسكر شديد التحصين، يضم المقار الرسمية الأكثر أهمية للدولة. وكانت تعد واحدة من أبرز رموز السلطة ما بعد احتلال العراق عام 2003، وواحدة من نتاجاته أيضا، فالتسمية كانت توصيفا أمريكيا لهذه المنطقة التي اختارتها سلطة الائتلاف المؤقتة مقرا لها، مقابل المنطقة الحمراء التي كانت تحدد مناطق بغداد الأخرى.
في آذار/ مارس عام 2015 أحاط الصدريون بالمنطقة الخضراء بالسلاسة نفسها، وقاموا بالاعتصام هناك، بل دخل السيد مقتدى الصدر نفسه إلى المنطقة الخضراء ليعتصم في خيمة نصبت له هناك، وقال مخاطبا أتباعه: «سأدخل بمفردي وأعتصم داخل المنطقة الخضراء وأنتم تعتصمون على أبوابها»!
وكانت الصورة الأكثر تعبيرا عن الوضع في العراق في هذا السياق، تقبيل القائد العسكري المسؤول عن حماية هذه المنطقة، يد السيد مقتدى الصدر عند بوابتها (هذا القائد العسكري كان يحمل رتبة فريق ركن وأصبح لاحقا عضوا في مجلس النواب عن التيار الصدري!).
في نيسان/ أبريل عام 2016 أيضا «دخل» الصدريون إلى المنطقة الخضراء، و«دخلوا» إلى مبنى مجلس النواب نفسه، وقاموا بالاعتداء على بعض النواب، ولم تقم القوات العسكرية والأمنية بأي محاولة لمنع ذلك، وقد وصف حاكم الزاملي، القيادي في التيار الصدري، حينها، قائد عمليات بغداد المسؤول عن حماية المنطقة الخضراء بأنه «كان متعاونا جدا»! وجاء خطاب رئيس مجلس الوزراء، الدكتور حيدر العبادي، حياديا تماما، دعا فيه المتظاهرين إلى العودة إلى المناطق المخصصة للتظاهر، والالتزام بالسلمية، وعدم التجاوز على الممتلكات العامة والخاصة ومؤسسات الدولة!
في حزيران/ يونيو من العام نفسه كنا أمام مشهد مختلف تماما؛ ففي هذه المرة لم تسمح القوات العسكرية والأمنية للصدريين «بالدخول» واستخدمت كل أدوات الردع التي تملكها، بما في ذلك الرصاص الحي، تصاحب ذلك مع خطاب سياسي مختلف، فقد صرح الدكتور حيدر العبادي نفسه بأن اقتحام مؤسسات الدولة لا يمكن القبول به، أو التهاون مع مرتكبيه، وأشار إلى أن للمقتحمين أهدافا سياسية منها جرّ البلاد إلى الفوضى!
وفي السياق نفسه، قام تحالف الفتح في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2019، بمظاهرتين سُمح فيهما للمحتجين «بالدخول» بسلاسة إلى المنطقة الخضراء، وقد هاجموا السفارة الأمريكية وأحرقوا إحدى نقاط الحراسة الخارجية، وكان من نتائج هذا الهجوم اغتيال الولايات المتحدة الأمريكية لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
في نهاية العام 2021، تظاهر مؤيدو قوى الإطار التنسيقي التي تضم كل الكتل السياسية الشيعية باستثناء التيار الصدري، وتعددت محاولات اقتحام المنطقة الخضراء، لكنهم فشلوا بسبب تصدي القوات الأمنية التي استخدمت كل الوسائل بما فيها العتاد الحي لمنعهم من ذلك!
في مقابل كل ذلك، كانت حركات الاحتجاج الشعبي العفوية والحقيقية، تُقابَل بأقصى درجات العنف، بداية من احتجاجات عام 2011، مرورا باحتجاجات الجغرافية السنية عام 2012 ـ 2013، وصولا إلى احتجاجات تشرين عام 2019، وقد تحول جسر الجمهورية، الذي يعد المعبر الرئيسي إلى المنطقة الخضراء، أثناء الاحتجاجات في بغداد، إلى حصن قروسطي تقليدي مدجج بالأسلحة لمنع المحتجين من العبور إلى المنطقة الخضراء مهما بلغ الثمن!
كل ما تقدم يكشف أن عمليات «الدخول» أو «اقتحام» المنطقة الخضراء إنما تخضع للسياق السياسي، وأن السلطة نفسها هي التي تحدد، بشكل مباشر أو ضمني، متى يمكن «الدخول» ومتى يتحول الأمر إلى «اقتحام» يقابل بالقوة المفرطة! ولو عدنا إلى بيان السيد رئيس مجلس الوزراء، السيد مصطفى الكاظمي، حول احداث «الدخول» إلى المنطقة الخضراء يوم أمس، لوجدناه نسخة طبق الأصل من بيان السيد حيدر العبادي بعد حادثة «الدخول» الأول! فالبيان يدعو إلى الالتزام بالسلمية، والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، واتباع تعليمات القوات الأمنية المسؤولة عن حمايتهم حسب الضوابط والقوانين، ويدعو إلى الانسحاب الفوري من المنطقة الخضراء!
وهذا يعني أن أي «دخول» قادم، أو «اقتحام» قادم، إنما تحدده السلطة نفسها وليس المتظاهرين المسيسين، أو المحتجين العفويين، وتحدد تبعا لذلك استقباله بالحيادية المطلقة او بالعتاد الحي!
بعيدا عن مقتربات دخول المنطقة الخضراء، وقريبا من تفاصيلها، يبدو جليا أن السيد مقتدى الصدر لن يسمح بتمرير أي حكومة يشكلها المناوئون له، وفي الوقت نفسه لن ينجح الإطار التنسيقي وحلفاؤه في تشكيل الحكومة، لأن تشكيلها سيعني مواجهة مفتوحة مع الصدريين، وبالتأكيد لا نتحدث هنا عن صراع سياسي، وإنما عن صراع عسكري بين طرفين مسلّحين ومتحفّزين.
لقد خاض الصدريون فيما سبق تجربة مريرة وهم بعيدون عن السلطة، ولن يكرروا بطبيعة الحال، هذه التجربة مرة أخرى، فهم يعلمون جيدا أن السلطة والوفرة المالية المتاحة، يمكن أن يستغلها الخصوم، لتقليم أظافر التيار الصدري بوسائل متعددة سبق أن أثبتت نجاعتها، من بينها العمل على انشقاقات داخل التيار، ورشوة الجمهور الصدري نفسه عبر سياسة التعيينات!
كما أن الحديث عن حكومة انتقالية لمدة سنة واحدة تكون مهمتها إجراء انتخابات مبكرة، بموجب قانون انتخابات جديد، وتحت إشراف مفوضية انتخابات جديدة، سيكون عبثا محض مع طبيعة علاقات قوة مختلة داخل السلطة التشريعية القائمة.
إذا، خارطة الطريق الوحيدة المتاحة اليوم هي تعطيل بعض مواد الدستور، بما فيها تعطيل عمل مجلس النواب نفسه، بعد الاتفاق بين الصدريين والإطار التنسيقي على تشكيل حكومة انتقالية، يتولاها مستقلون حقيقيون، غير محسوبين على أي من الطرفين. ومنح هذه الحكومة الانتقالية سلطة التشريع فيما يتعلق بقضايا محددة بدقة في خطاب التكليف، يتيح لها تشريع قانون انتخابات جديد، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة بعيدة عن القضاء، وبعيدة عن القوى السياسية، على أن لا يسمح للحكومة الانتقالية بكامل أعضائها الترشح في هذه الانتخابات.
(القدس العربي)