هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما يحدث في ولاية النيل الأزرق من اقتتال وسفك للدماء لا يُسأل عنه القادة وزعماء القبائل في الولاية، وإنما يُسأل عنه الحكام والنخب السياسية في الخرطوم، وهو حدث لا يقتصر على ولاية النيل الأزرق أو دارفور وحدهما، وإنما يكاد يعم كل البلاد.
فيوميا يُرمى بمنطقة جديدة في محرقة الحريق القبلي، ولن يتوقف إلا إذا تمكنا من إخراس الخطاب الذي ينفث عنصرية، ولو كان مغلفا، والسائد عند العديد من قيادات البلد وقيادات النخب، وإلا إذا تمكنا من هزيمة الممارسات الخاطئة والممتدة من أيام النظام البائد ولا تزال تتبناها بعض القيادات اليوم المتمثلة في الاستقواء بهذه القبيلة أو تلك، واتباع أسلوب الإرضاءات السياسية مع الزعامات والبيوتات والرموز القبلية، وعبر تشطير الولايات والكيانات الإدارية الواحدة لإنشاء ولايات وإدارات أهلية جديدة، إرضاء لقبائل وجهويات وإثنيات محددة، وعبر توزيع السلاح على هذه القبائل حتى تدعمها في مقاتلة معارضيها.
أما المدخل الرئيسي لإخراس ذاك الخطاب العنصري وهزيمة تلك الممارسات الخاطئة، فهو خروج النخب السياسية من حالة التوهان وعدم الاعتراف المتبادل، التي ولغت فيها حدّ ارتكاب الجريمة في حق الوطن، لتتولى زمام الأمور عبر جبهة مدنية واسعة تسير بالفترة الانتقالية وبالتحول المدني الديمقراطي، إلى الغايات التي تنشدها جموع الشعب السوداني وثارت من أجلها في كانون الأول/ديسمبر 2018.
إن النزاعات القبلية في السودان في أغلبها إن لم تكن كلها، نزاعات حول ملكية الأراضي والموارد، ولا يمكن إرجاعها إلى نظرية المؤامرة وفرضية تحكم العقلية الإجرامية عند هذه المجموعة أو تلك، على الرغم من توفر عامل الجشع هنا وهناك، خاصة بعد اكتشافات الثروات في باطن الأرض، كالبترول والذهب، أو بعد شح مصادر المياه بسبب الجفاف وبخل الطبيعة.
والتاريخ يحدثنا عن مدى فظاعة المعاناة والمآسي الناتجة من الفشل في إدارة التنوع، عندما يعبئ الحكام والقادة بشكل تعسفي المجموعات القومية والعرقية التي يقودونها لمحاربة بعضها البعض
هذه الصراعات والنزاعات في الغالب الأعم تعود إلى تناقضات وتصادمات الرؤى حول الحقائق على أرض الواقع، نتيجة لعوامل تاريخية وأخرى آنية، فتتمسك كل مجموعة بما تراه الحقيقة والحق
إن مسألة الأرض أصبحت تمثل أحد أكبر هموم وتحديات السودان المعاصر، بل ومهددا رئيسيا لحاضر ومستقبل السودان كدولة ومجتمع، إذا لم يتم التصدي للقضايا المتعلقة بها بعلمية وعدالة.
وكما أشار عدد من الدراسات، فإن الزيادة الكبيرة في حجم السكان وحركتهم وهجراتهم واسعة النطاق، وتغير المناخ، وتدهور جودة الأراضي، وسن القوانين غير العادلة لتنظيم ملكية الأرض، واستيلاء النخب السياسية والاجتماعية على مساحات شاسعة من الأراضي الجيدة، والانتقال المتسارع نحو اقتصاد السوق، والآثار الناجمة عن النزاعات والحرب الأهلية وانفصال جنوب السودان، كل هذه العوامل، وغيرها، اجتمعت لتعزز المطالبة باستحقاقات ملكية الأرض والمنافسة عليها والصراع حولها، خاصة في مناطق الزراعة المطرية.
وقد أدى ذلك إلى توطين الفقر في الريف، وشكل عقبة في تطور نظم الإنتاج والاستثمار، وأحدث شروخا كبيرة في بنية ونسيج المجتمع من خلال الاستقطاب القبلي والإثني، مما أدى إلى تآكل آليات وعلاقات التعايش السلمي التي ميزت أهل السودان وسجل تاريخهم الاجتماعي، الشفاهي منه والمكتوب.
قال لي محدثي الخمسيني، وهو من أبناء مدينة الروصيرص في منطقة النيل الأزرق، جنوب شرق البلاد؛ إنه حتى وقت قريب كان يعتقد أن أسرته أصلا من قبائل المنطقة، لكنه مؤخرا فقط، ولدهشته، علم أن جدوده ينحدرون من شمال السودان.
فجده لأبيه من منطقة الشايقية، وجده لأمه من ود بانقا في منطقة الجعليين. أما هو، فوُلد وشب وترعرع في مدينة الروصيرص، لعب ودرس وعمل مع أقرانه من أبناء المنطقة وتزوج من بناتها، دون أن يطرح هو، أو يطرحوا هم، سؤال من أين أتيت يا هذا؟ أو سؤال ما هي قبيلتك وما هي أصولك الإثنية؟
وهل أسرتك من سكان المنطقة الأصليين أم وافدة إليها؟ ويجزم محدثي بأن هذا النوع من الأسئلة لم تعرفها منطقة الروصيرص، إلا بعد أن تمكّن نظام «الإنقاذ» من البلاد، وهو شخصيا أول مرة سمع بسؤال ما هي قبيلتك كان في مكاتب جهاز الأمن والمخابرات التابع لسلطة «الإنقاذ»، عندما تم اعتقاله بسبب آرائه الفنية وليس السياسية، حول تعلية خزان الروصيرص!
واختتم محدثي كلامه متحسرا، وبنبرة حزن نبيل: «قبل «الإنقاذ»، كانت منطقة النيل الأزرق نموذجا للنجاح في إدارة التنوع، وكانت قُدوة للتعايش والتعاون والإخاء بين مختلف القبائل والإثنيات.
وساهم زعماء القبائل في المنطقة في هذا النجاح بكل ما أوتوا من حكمة وفطنة. ولكن، بعد تمكن تجار الدين من السلطة، أصبحت المنطقة نموذجا لكيف يمكن أن يتحول ذلك النجاح إلى فشل مريع حد الحرب الأهلية، وكيف يمكن أن يتوطد العنصر القبلي الكريه مكان التسامح والتعايش السلمي في المنطقة».
والتاريخ يحدثنا عن مدى فظاعة المعاناة والمآسي الناتجة من الفشل في إدارة التنوع، عندما يعبئ الحكام والقادة بشكل تعسفي المجموعات القومية والعرقية التي يقودونها لمحاربة بعضها بعضا؛ بدافع التفوق والسيطرة واستغلال الغير.