هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ليست القصة في ترتيبات مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده في مصر، ولا في تشكيل مجلس أمنائه المعقول نسبيا، لكن الأهم يبقى في مضمون الحوار، وفي نتائجه المنتظرة، وفي مدى ملامستها للتحديات الأكثر إلحاحا للبلد وأهله.
الحوار كما هو معروف، جاء بدعوة رمضانية من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى، الذي تعهد باحترام ما تنتهي إليه المناقشات، وإن طلب استبعاد جماعات اليمين الديني من «الإخوان» وغيرهم، وعلى قاعدة اتهامات ووقائع تورطهم في أعمال إرهابية «قتالية»، وهو ما صادف حماسا عند أغلب المشاركين المدعوين، وإن أثار اعتراضات البعض، في ما يسمى معارضة الخارج، لكن ما يبدو ضروريا عاجلا، حتى قبل انطلاق جلسات الحوار رسميا، هو تفكيك الاحتقان السياسي، وتصفية ملف المحتجزين سياسيا وراء أسوار السجون.
وفي تقديرنا الذي نداوم على ذكره من سنوات بعيدة، شفاهة وتحريرا، وفي المنابر المصرية الداخلية قبل غيرها، أن موضوع المحتجزين، لا يصح أن ينتظر بدء الحوار وتفاوت وجهات النظر، وأن الملف إنساني قبل وبعد أي اعتبار آخر، وأنه معلق بقرار من الرئيس السيسي، باعتباره رأسا للدولة، وأن المطلوب ببساطة، ليس التعامل بالقطعة على طريقة «لجنة العفو الرئاسي»، التي جرت إعادة تنشيطها، ويؤدي عملها إلى الإفراج عن عشرات ومئات المحتجزين، بل لا بد عندنا من التعامل بالجملة، وإنهاء مأساة آلاف مؤلفة من المسجونين، وعلى أساس موضوعي صرف، يضع خطا فاصلا بين معنى السياسة ومعنى الإرهاب، وإصدار «قانون عفو شامل»، يملك الرئيس صلاحياته، وفرص تمريره السلس عبر البرلمان، ويخلى بموجبه سبيل المحتجزين كافة لأسباب سياسية وقضايا رأي، وأيا ما كانت ألوانهم الفكرية، ولا يستثنى منه سوى المتهمين والمدانين في عمليات عنف وإرهاب مباشر.
نعم، إخلاء سبيل المسجونين السياسيين بالجملة، هو نقطة البدء الواجبة، وهو الإجراء الطبيعي الممهد لأي حوار يحتاجه البلد، فليست القصة في موقف ما من فصائل مشاركة أو مستبعدة، بل في إنهاء معاناة طالت المحتجزين السياسيين وأسرهم، تقادمت عليها السنوات، ومن دون بارقة أمل في مغادرة ظلام السجون، ولا في نهاية تحقيقات ومحاكمات يجري استنساخها وتدويرها، ويتعلق الكثير منها بتهم غير منضبطة في توصيفها القانوني، من نوع تزكية التشاؤم، أو نشر أخبار كاذبة، أو الشروع في مظاهرات سلمية، أو كتابة رأي مخالف على وسائط التواصل الاجتماعي، أو غير ذلك مما يتنافى بداهة مع مبدأ إشاعة الحوار واحترام الدستور، ومع حظر الحبس في غالب قضايا النشر بنص الدستور، وتنقية قانون العقوبات، وإلغاء التمديد اللانهائي لفترات الحبس الاحتياطي، من دون محاكمات، وضبط تعريف «الإرهاب» في قانون مكافحته، وفي إضافات مغلظة جرت بعد وقف الرئيس العمل بحالة الطوارئ قبل شهور، وإعلان اقتلاع الشتلة الرئيسية للإرهاب في سيناء بالذات، وبتضحيات جليلة، سقط فيها نحو الثلاثة آلاف ونصف الألف من الشهداء العسكريين، ومن مبادئ السياسة الصحيحة، أن يرتبط كل إجراء بوقته، وأن يكون لدى المعنيين حس التصحيح الذاتي، والتفكيك المنتظم لظواهر الاحتقان عموما، وإخلاء سبيل المحتجزين السياسيين بمبادرة رئاسية مطلوبة، يتيح مناخا مواتيا لإجراء مراجعات وإصلاحات تشريعية، يلزم أن تعطى لها الأولوية الملزمة في مجلس النواب الموجود على علاته وتواضع تمثيله الشعبي.
إخلاء سبيل المسجونين السياسيين بالجملة، هو نقطة البدء الواجبة، وهو الإجراء الطبيعي الممهد لأي حوار يحتاجه البلد
وفي السطور أعلاه، بدا التركيز أكثر على الملف السياسي، وإن كانت تحديات مصر الراهنة أوسع نطاقا بكثير، وفي ظن كاتب السطور، أن إنجازات هائلة توالت في السنوات الأخيرة، لكن الإنجاز المقدر الذي تحقق حتى تاريخه، يقابله انحياز مقلوب لغير صالح الفقراء والطبقات التي كانت وسطى، جعل «مصر الغاطسة» بتعبير الراحل الدكتور رشدي سعيد، هي مصر الأغلبية بنسبة تجاوزت التسعين في المئة من السكان، وقد دفع هؤلاء أثمانا باهظة لبرامج ما يسمى «الإصلاح الاقتصادي»، ويدفعون المزيد مع العودة لبرامج «الخصخصة» و«التصفية» وبيع الأصول، الذي لا تستفيد منه سوى القلة المترفة في «مصر الطافية» المتحكمة، بينما الأغلبية في «مصر الغاطسة»، يعانون بطولة البقاء على قيد الحياة، وهي بطولة مرهقة مستنزفة، وصارت شبه مستحيلة، مع تصاعد موجات التضخم والغلاء، وتراكم ديون الاقتصاد، خصوصا مع جوائح «كورونا» وعواصف الأزمة الروسية الأوكرانية، وتضاعف فواتير استيراد القمح والزيوت والبترول، وهو ما يلزم في أي حوار، وإضافة للملف السياسي طبعا، بإعطاء الأولوية لمراجعة الاختيارات الكبرى، وبالذات في ملفات استكمال استقلال القرار المصري، ومنح الأولوية المطلقة للتصنيع الشامل، ورد الاعتبار لمبادئ واعتبارات العدالة الاجتماعية، وكنس جماعات إمبراطورية الفساد، التي لا تزال تسرق ثروات البلد وأصواته، مع فسح المجال العام، وإطلاق حريات الإبداع والرأي والتعبير والإعلام، وفتح مسام مصر المسدودة.