قضايا وآراء

العودة إلى أريكة فرويد

مريم الدجاني
1300x600
1300x600
أصبح العلاج المعرفي السلوكي -الرخيص والفعال- الشكل السائد للعلاج، مما جعل فرويد في الطابق السفلي لعلم النفس. لكن الدراسات الجديدة ألقت بظلال من الشك على تفوقها، وأظهرت نتائج مثيرة لصالح التحليل النفسي. فهل حان الوقت للعودة إلى الأريكة؟

في البداية، قيل إنه تم فضح زيف فرويد، فالصبيان لا يشتهون أمهاتهم أو يخشون أن يقوم آباؤهم بخصيهم؛ المراهقات لا يحسدن قضيب إخوانهن. لا يوجد مسح للدماغ استطاع تحديد موقع الأنا أو الأنا الأعلى أو الهو، وأن يتكلف العملاء مبالغ باهظة للتفكير في طفولتهم لسنوات مع وصف أي اعتراضات على هذه العملية بأنها "مقاومة" تستلزم المزيد من التحليل النفسي، فيما يبدو للكثيرين وكأنها عملية احتيال. حتى أن بيتر مدور، عالم الأحياء البريطاني البرازيلي الذي حاز على جائزة نوبل في الطب عام 1960، وصف التحليل النفسي بأنه "الخدعة الفكرية الأكثر روعة في القرن العشرين". وتابع مدور أنه كان "منتجاً نهائياً أيضاً، شيء أقرب إلى ديناصور أو منطاد في تاريخ الأفكار، وهيكل ضخم من التصميم غير السليم جذرياً ولا يعول عليه".

ثم ظهرت مجموعة من الطرق العلاجية بعد فرويد، حيث حاول المعالجون أن تكون محاولاتهم على أساس تجريبي. ولكن من بين كل هذه الأساليب ظهر العلاج السلوكي المعرفي، أو "CBT"، وهو أسلوب واقعي لا يهتم بالماضي بقدر ما يركز على الحاضر؛ لا يعتمد على دوافع داخلية غامضة، ولكن على تعديل أنماط التفكير غير المفيدة التي تسبب المشاعر السلبية والأفكار غير المنطقية. على عكس الطرق المتشابكة للتحليل النفسي، قد يتضمن تمرين "CBT" النموذجي ملء مخطط انسيابي لتحديد "الأفكار التلقائية" للنقد الذاتي التي تحدث عندما تواجه انتكاسة، مثل التعرض للنقد في العمل، أو الرفض من شخص كان يثير إعجابك.

لطالما كان لدى العلاج المعرفي السلوكي العديد من المنتقدين، بدءا من تكاليفه المنخفضة نسبيا، وتركيزه على إعادة الناس بسرعة إلى سوق العمل، مما يجعله جذاباً -بشكل مثير للريبة- للسياسيين والاقتصاديين الذين تدور أهدافهم عادة حول تخفيض التكاليف وزيادة الأرباح. ولكن حتى أولئك الذين عارضوا ذلك لأسباب أيديولوجية، نادراً ما شككوا في أن العلاج المعرفي السلوكي يحل المشكلة. فمنذ ظهوره لأول مرة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تراكمت العديد من الدراسات لصالحه بحيث أصبحت المصطلحات السريرية في هذه الأيام "العلاجات المدعومة تجريبياً" مجرد مرادف للعلاج المعرفي السلوكي، تلك العلاجات القائمة على الحقائق. فإذا بحثت عن أي إحالة علاجية، من المرجح أن ينتهي بك الأمر، ليس في أي شيء يشبه التحليل النفسي، ولكن في سلسلة قصيرة من الاجتماعات شديدة التنظيم مع ممارس العلاج المعرفي السلوكي، أو ربما تعلم طرق التعامل مع الأفكار السلبية عبر عرض "PowerPoint" تقديمي أو عبر الإنترنت.

مع ذلك، لم تختف تماماً أصوات المعارضة من الحرس القديم المهيمن على التحليل النفسي، حيث الخلاف الأساسي حول الطبيعة البشرية وسبب معاناتنا، وكيف يمكننا أن نأمل في العثور على راحة البال. يجسد العلاج السلوكي المعرفي وجهة نظر محددة جداً عن المشاعر المؤلمة: أنها في الأساس شيء يجب التخلص منه. ففي حالة مثل الاكتئاب، تشبه هنا إلى حد ما الورم السرطاني، بالتأكيد قد يكون من المفيد معرفة من أين أتت، ولكن التخلص منها أكثر أهمية بكثير. لا يدعي العلاج السلوكي المعرفي تماماً أن السعادة سهلة، ولكنه يشير إلى أنها بسيطة نسبياً: إن محنتك ناتجة عن مشاعرك السلبية وأفكارك غير المنطقية، ومن قدرتك على السيطرة عليها وتغييرها.

أما المحللون النفسيون فهم يؤكدون على أن الأمور أكثر تعقيداً، لسبب واحد؛ أن الألم النفسي يحتاج أولاً إلى عدم القضاء عليه، بل يجب فهمه. من هذا المنظور، ومن هذا المنطلق، فإن الاكتئاب لا يشبه الورم، بل هو أشبه بطعنة في الصدر: إنه يخبرك بشيء ما، وعليك معرفته، بدل أن يعالج طبيب عام التهاب قصبات خطيرا بمسكنات ويعيدك إلى المنزل. والسعادة -إذا كانت حقيقة أصلا- هي أمر أكثر غموضاً. نحن لا نعرف عقولنا حقاً، ونحن نجاهد للحفاظ على هذه الحقيقة. نحن نرى الحياة من خلال عدسة علاقاتنا المبكرة، على الرغم من أننا عادة لا ندرك ذلك؛ لذا فإننا كثيرا ما نريد أشياء متناقضة. والتغيير هنا بطيء وصعب، الوعي لدينا هو عبارة عن القمم الظاهرة فقط من الجبل الجليدي الضخم المغمور تحت محيط اللا وعي المظلم، ولا يمكنك استكشاف هذا المحيط حقاً عن طريق خطوات العلاج السلوكي المعرفي البسيطة والموحدة والتجريبية والمُختبرة علمياً.

في دراسة نُشرت عام 2015 (1)، تحت عنوان: "آثار العلاج السلوكي المعرفي: العلاج المضاد للاكتئاب آخذ في الانخفاض"، أظهرت أن العلاج المعرفي السلوكي كعلاج للاكتئاب أصبح أقل فاعلية بمرور الوقت. بعد فحص عشرات التجارب التجريبية السابقة، خلص باحثان من النرويج إلى أن حجم تأثير العلاج المعرفي السلوكي -وهو مقياس تقني لفائدته- قد انخفض بمقدار النصف منذ عام 1977. وفي حالة استمرار هذا الاتجاه غير المحتمل، فقد يكون عديم الفائدة تماماً في بضعة عقود، فهل استفاد العلاج المعرفي السلوكي بطريقة ما من تأثير الدواء الوهمي أو البلاسيبو طوال الوقت، وكان فعالاً فقط طالما اعتقد الناس أنه علاج معجزة؟

وقد نشر باحثون في عيادة تافيستوك (2) بلندن نتائج في تشرين الأول/ أكتوبر من أول دراسة جدية لهيئة الخدمات الصحية الوطنية حول التحليل النفسي طويل الأمد كعلاج للاكتئاب المزمن. وخلصت إلى أنه بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الشديد، فإن 18 شهراً من التحليل كان أفضل بكثير -مع تأثيرات طويلة الأمد- من "العلاج كالمعتاد" على NHS، والذي تضمن بعض العلاج المعرفي السلوكي. بعد عامين من انتهاء العلاجات المختلفة، لم يعد 44 في المئة من مرضى التحليل يستوفون معايير الاكتئاب الشديد، مقارنة بعُشر المرضى الآخرين. في نفس الوقت تقريباً، أفادت الصحافة السويدية عن نتيجة من مدققي الحسابات الحكوميين هناك: أن مخططاً بملايين الجنيهات لإعادة توجيه الرعاية الصحية النفسية نحو العلاج المعرفي السلوكي قد أثبت أنه غير فعال تماماً في تحقيق أهدافه.

لقد اتضح أن مثل هذه النتائج ليست منعزلة وفردية، خاصة مع تزامن تأكيد مجموعة من المعالجين النفسيين على أن تفوق العلاج المعرفي السلوكي قد تم بناؤه إلى حد كبير على الرمال. هم في الواقع، يجادلون بأن تلقين الناس أن "التفكير في أنفسهم بإيجابية" قد يزيد الأمور سوءاً في بعض الأحيان. قال جوناثان شيدلر، عالم النفس في كلية الطب بجامعة كولورادو، وهو أحد أكثر نقاد العلاج المعرفي السلوكي قسوة: "كل شخص يفكر يعرف أن فهم الذات ليس شيئاً تحصل عليه من خلال خدمة الشراء عبر السيارة أو ما يسمى بـ drive thru".

يبدو أن الروائيين والشعراء قد فهموا هذه الحقيقة لآلاف السنين؛ حتى لو في العقود القليلة الماضية فقط قال الناس: "يمكنك في 16 جلسة أن تغير أنماطك الحياتية المتأصلة!" إذا كان شيدلر والآخرون على حق، فقد يكون قد حان الوقت لعلماء النفس والمعالجين لإعادة تقييم الكثير مما ظنوا أنه العلاج الأفضل: حول ما ينجح، وما لا ينفع، وما إذا كان العلاج المعرفي السلوكي قد تخلص من أريكة فرويد. ويمكن أن يكون تأثير إعادة التقييم هذا عميقاً؛ لأنه في النهاية لا تكمن أهميته في أنه قد يغير كيفية علاج ملايين الأشخاص حول العالم لمشاكلهم النفسية، بل لأنه قد يدفعنا إلى إعادة التفكير في المعاناة البشرية ومعنى السعادة وتعريف الإنسان السوي مرة جديدة.
ــــــــــ
(1) https://uit.no/Content/418448/The%20effect%20of%20CBT%20is%20falling.pdf
(2) https://onlinelibrary.wiley.com/doi/pdf/10.1002/wps.20267
التعليقات (0)