كثيرا ما طُرح هذا السؤال، وسيظل مطروحا طالما لم تجد
ليبيا وأبناؤها الطريق إلى المصالحة الوطنية، القادرة على بناء التوافق حول شرعية الدولة والسلطة والمؤسسات الدستورية. لقد مرّ على حراك 17 شباط/ فبراير 2011 وإسقاط النظام أكثر من ١١ عاما، خبرَ الليبيون خلالها تسع حكومات، وأسسوا 142 حزبا سياسيا، وأحدثوا العديد من المنابر الإعلامية، المسموعة والمرئية والمقروءة، ودبَّ
الانقسام بين شرق بلادهم وغربها، وتعالت نعرة القبلية والعشائرية والجهوية بين صفوفهم، وتقاذفتنهم التدخلات الدولية، والتأثيرات الإقليمية، فعجزت روح وحدة الوطن عن التسلل إلى قلوبهم، وسادت لغة البنادق والاقتتال، وما يُشبه الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
مقابل هذه الصورة المعقدة وغير المحفزة على الاطمئنان، تمتلك ليبيا كل مقومات التحول إلى بلد قادر على الخروج من شرنقته، وامتلاك مصيره من أجل التطور والنماء. فليبيا رابع دولة نفطية في إفريقيا، ولها من الغاز الجيد ما يعزز ثروتها النفطية، كما أن سواحلها تمتد لمساحات شاسعة، تبعد عن أوروبا بمرمى الحجر.
تمتلك ليبيا كل مقومات التحول إلى بلد قادر على الخروج من شرنقته، وامتلاك مصيره من أجل التطور والنماء. فليبيا رابع دولة نفطية في إفريقيا، ولها من الغاز الجيد ما يعزز ثروتها النفطية، كما أن سواحلها تمتد لمساحات شاسعة، تبعد عن أوروبا بمرمى الحجر
أما من حيث "الجيوبوليتيك" (géopolitique)، فليبيا في مفترق استراتيجي بالغ الأهمية والخطورة، فهي في تماس مع أفريقيا، وتمثل جسرا ممتدا نحو الشرق العربي، علاوة على الخيرات الطبيعية المتنوعة التي وهبها الخالق لهذا البلد، والتي لم تُستثمر بعد، يُضاف إليها المعطى الديمغرافي المساعد، الذي لا يتجاوز الستة ملايين نسمة، معظمهم من الشباب.
بيد أن كل هذه المقدرات والفوائض، الت لم تتوفر للكثير من الدول، لم تُسعف ليبيا في بناء دولتها الوطنية المستقلة والقوية، على الرغم من حصولها مبكرا على استقلالها ) 1951(، مقارنة مع عموم أقطار المغرب الكبير. ومما عقّد أكثر مسيرة ليبيا واستعصاء تطورها السياسي؛ خضوع مجتمعها لنظام سياسي عمّر أكثر من أربعة عقود (١٩٦٩-٢٠١١)، لم يكتف بتعطيل مؤسساتها وحياتها العامة، بل قام تدريجيا بإعادة بناء الإنسان الليبي بطريقة جردته من كل مقومات الاندماج الفعال والعقلاني في الحياة العامة.
أذكر أن حراك 17 شباط/ فبراير 2011 انطلق سلميا وسلسا وتوّاقا إلى التغيير الإيجابي، وقد شاءت الظروف أن كنت في ورشة علمية في "أكاديمية الدراسات العليا" قبيل الحراك بشهور قليلة، فشاهدت شعارات اليافطات المعلقة في أكثر من موقع في مدينة طرابلس، وقد اشتركت في تمجيد القائد وتضخيم صورته، إلى حد ذكرني بما آلت إليه صورة "شاه إيران" قبل سقوطه (16 كانون الثاني/ يناير 1979)، فقلت لصديقي، وهو عالم اجتماع مُميز ومستقل التفكير، إن شعارات هذه اليافطات لا تبشر بخير، لأن فيها قدرا كبيرا من المبالغة غير المفهومة ولا المقبولة، ولم تمر سوى شهور قليلة وحصل ما حصل في ليبيا.
إلى أين تسير ليبيا إذن؟ وهل بمقدورها الخروج من دائرة التوتر فينة والاقتتال الداخلي طورا آخر؟ أم أنها ستظل تُراوح مكانها؟ وإذا كان هذا الاحتمال واردا، وهو ما لا يتمناه أي إنسان للبلاد الليبية، فهل سيكون المستقبل المحتوم لليبيين انقسام وطنهم إلى وحدات جغرافية ودويلات متنافرة؟
ثمة احتمالات كثيرة أمام ليبيا والأشقاء الليبيين لتطور أوضاع بلادهم، أفضلها أن تنجح العملية السياسية في تقريب الفجوة بين الفرقاء، وتجنيب البلاد مشهد التفكك والفتنة، وتيسير مناخ التوافق من أجل بناء مؤسسات الدولة الجديدة. فالحاصل أن اتفاق إطلاق النار المبرم في شتاء 2019، لم يتحول بعد إلى روح عامة تحكم نسيج المجتمع ومكوناته، وأن التهديد باللجوء إلى لغة القوة والعنف ما زال حاضرا لدى المتصارعين. كما أن المبادرات الدولية المنطلقة من أكثر من عاصمة أوروبية (إيطاليا/ ألمانيا/ فرنسا/ سويسرا) وعربية (المغرب / مصر أساسا) لم تبلغ مداها البعيد، بل إن الأمل الذي عُقد على انتخابات 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021 لم يتحقق، وتمّ إرجاء الاستحقاق الانتخابي إلى أجل لاحق لا تبدو معالمه واضحة، بل عاد احتراب المليشيات ولغة البنادق من جديد إلى العاصمة طرابلس.
ثمة احتمالات كثيرة أمام ليبيا والأشقاء الليبيين لتطور أوضاع بلادهم، أفضلها أن تنجح العملية السياسية في تقريب الفجوة بين الفرقاء، وتجنيب البلاد مشهد التفكك والفتنة، وتيسير مناخ التوافق من أجل بناء مؤسسات الدولة الجديدة
ففي الحقيقة ليس خافيا على النخب الليبية سُبُل الحل وآلياته، كما ليست واضحة عند قادتها مخاطر استمرار ليبيا في وضع اللا استقرار وعدم اليقين، فالجميع يُدرك أن الحل التاريخي والمطلوب هو أن تتصالح بلادهم، دولة ومجتمعا، مع ذاتها، وأن يلتف الجميع حول وحدة وطنهم، وأن يصونوا مقدراتهم وثرواتهم، وأن يتكاتفوا من أجل بناء ليبيا الحديدة. غير أن المفارقة تكمن في عجزهم عن إدارة اختلافاتهم، واستعصاء تغليب المشترك الجامع لهم ولهويتهم الوطنية، وفي أحيان كثيرة ضعف ترجيح ولائهم لبيتهم المشترك ليبيا على غيره من التجاذبات والولاءات الثانوية.
فحتى حين تمكن
الحوار الليبي الليبي -الملتئم في جنيف بتاريخ 5 شباط/ فبراير 2021، والمدعوم من الأمم المتحدة وتحت رعايتها- من انتخاب رئيس حكومة لفترة انتقالية (عبد الحميد الدبيبة) إلى جانب مجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء، ونالت هذه الخطوة (الحكومة) ثقة البرلمان، وحلت محل
حكومة الوفاق الوطني وحكومة الشرق، منهية بذلك انقسام ليبيا بين شرعيتين في الغرب والشرق، وبدأت البلاد تستعد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، بعدما جمّد المشير "
حفتر" نشاطه العسكري، سرعان ما اهتزت هذه الخطوة بالغة الأهمية، وبدأت آمال التحول نحو المصالحة وبناء المؤسسات تتبدد شيئا فشيئا، وعاد الحديث من جديد حول اقتتال الفرقاء وتوزعهم على ولاءات متنافرة، ستضر ليبيا وتؤخر تحقيق السلم في ربوعها. إن الحاجة ماسة إلى نجاح العملية السياسية في ليبيا بتوافق فرقائها ومكوناتها والفاعلين في مصيرها، ودون ذلك قد تنعطف ليبيا نحو المجهول.