قضايا وآراء

مسألة الترحّم على الميّت غير المسلم وعلاقتها بالهويّة والمفاهيم

محمد خير موسى
1300x600
1300x600

بعد ضجيج المعركة الافتراضيّة وانقشاع الكثير من غبارها، نحتاج إلى التوقّف مع مسألة الترحم على من مات على غير الإسلام من زاوية جديدة متعلّقة بالهويّة والحالة المفاهيميّة.

السّياق الذي طُرحت فيه المسألة

يمكن تقسم السياق العام الذي طرحت فيه المسألة إلى سياقات ثلاثة خاصة على النّحو الآتي:

السّياق الأوّل: تأليه الدّولة الحديثة وما أنتجته من مفاهيم

الدولة الحديثة "ما بعد الحقبة الاستعماريّة" المؤسّسة معرفيّاً على العقلانيّة الماديّة، المستغنية عن الدين طريقا إلى المعرفة تحوّلت إلى إله ودين خاص. نحن نعيش حالة من تكريس ألوهيّة الدّولة الحديثة؛ يقول الدكتور بشير نافع في إحدى مقالاته عن تأليه الدّولة: "في خلال القرن العشرين، أصبحت الدولة إلهاً مستقلاً بذاته؛ الدولة الحديثة هي المؤسسة الاجتماعية الأكثر تجريداً على الإطلاق في كل التاريخ الإنساني. ليس للدولة لون أو رائحة أو حيز زماني محدد".

إنّ من أهم ما أنتجته ألوهية الدولة الحديثة وتحوّلها إلى دين قائم بذاته، كما يعبر عن ذلك نعوم تشومسكي، هو حدوث حالة التّماهي الهويّاتي بين أفراد الدّولة الواحدة بحيث يغيب أي نوع من التمايز الهوياتي المرتكز أصلاً على أسس الهوية من الاعتقاد واللغة والتاريخ والثقافة.

وحالة التّماهي هذه ولّدت شعوراً عند شريحة واسعة من المشتغلين في الحقل الشّرعي بضرورة تنزيل المفاهيم والمصطلحات الشرعيّة على الواقع الجديد، والمفاهيم الجديدة التي فرضتها ورسمتها الدولة الحديثة هوياتيا.

هناك من اعتبر هذا التطويع نوعاً من الهزيمة الحضاريّة أو تمييع الدّين وغير ذلك من التوصيفات؛ أنا شخصيّا أعتقد أنّه ليس نوعاً من الهزيمة الحضاريّة، بل هو نوع من الارتباك الحضاري ونوع من القلق الحضاري

وقد أنتج هذا حالة من تطويح المصطلح الشرعي لمقتضيات الدّولة الحديثة وما أحدثته من مفاهيم، فالمفهوم أوسع من المصطلح وهو دال عليه، وهذا التطويع أدّى إلى الكثير من الإشكالات.

هناك من اعتبر هذا التطويع نوعاً من الهزيمة الحضاريّة أو تمييع الدّين وغير ذلك من التوصيفات؛ أنا شخصيّا أعتقد أنّه ليس نوعاً من الهزيمة الحضاريّة، بل هو نوع من الارتباك الحضاري ونوع من القلق الحضاري.

فالكثيرون ممّن يحاولون تنزيل هذه المصطلحات على الواقع الجديد المفروض هوياتياً هم ليسوا مهزومين داخلياً ولا يريدون تمييع الدّين ولا مجاراة الواقع بالضّرورة، ودينهم غالٍ عليهم ولا يرون أنّهم يتنازلون عن الدّين، لكنّهم وقعوا في معضلة الخضوع للواقع تحت عنوان فهم الواقع فاعتقدوا أنّ فهم الواقع يقتضي منهم هذا النّوع من التطويع.

هنا تكمن مشكلة في التّعامل الواقعي مع الحكم الفقهي، فابن القيّم عندما تحدث عن الفقه بيّن أنّه يرتكز على ثلاثة مرتكزات رئيسة؛ معرفة النّص، وفهم الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر. وهنا لا بدّ أن نعلم أنّ التنزيل إنّما يتمّ على واقعٍ لتدبيره لا إخضاعاً لواقع لتبريره.

فالأصل أنّ النص يتنزل على واقع يصلح له ويمكن التنزيل عليه، وجزء ليس يسيراً من مقتضيات الدّولة الحديثة وما فرضته في مجال الهويّة بشكل رئيسيّ لا يصلح اليوم لتنزيل النص الشرعيّ عليها إلا تنزيلاً إخضاعيّاً.
الأصل أنّ النص يتنزل على واقع يصلح له ويمكن التنزيل عليه، وجزء ليس يسيراً من مقتضيات الدّولة الحديثة وما فرضته في مجال الهويّة بشكل رئيسيّ لا يصلح اليوم لتنزيل النص الشرعيّ عليها إلا تنزيلاً إخضاعيّاً

إنّ إخضاع المصطلح الشرعيّ لهويّات الدولة الحديثة أدخلنا من حيث لا نشعر في حالة من فوضى المصطلحات وفوضى في استخدامها.

السّياق الثّاني: السّيولة المفاهيميّة

مما أفرزته الدّولة الحديثة أيضاً حالة السّيولة؛ السيولة التي أدت فيما أدت إليه إلى سيولة المفاهيم، ومنها المفاهيم الشرعية التي تمّ التعامل معها.

إنّ حالة التمايز الهوياتي داخل الدولة لا تتناقض مع مفهوم المواطنة من حيث المبدأ؛ لكن مما أحدثته الدولة الحديثة ضمن حالة السيولة الوصول إلى كثير من معالم الذوبان في الهويات تحت عنوان أبناء الوطن الواحد وتكريس النزعة الإنسانويّة.

على أنّ حالة السّيولة المفاهيميّة تجلّت بأوضح أشكالها مع بدء عصر التكنولوجيا الرّقميّة التي كانت مرحلة انتقاليّة وجذرية في الواقع الهوياتي، فنحن نعيش ما أطلق عليه البعض "الانفجار الاتصالي عن بعد"، وهذا الانفجار الرّقمي أدّى إلى غياب الكثير من حدود الهويّات المتمايزة وأنتج حالة صارخة من سيولة الهويّات، وسيولة الهويّات أثّرت من حيث لا نشعر في التّعامل مع المصطلحات الشرعيّة في خضمّ هذه السيولة الصّارخة.

لذلك نرى أنّ الخلاف في مسألة التّرحم على من مات مِن غير المسلمين هو في عمومه خلافٌ حادث ولم يكن موجوداً في العصور الأولى؛ إنّما ظهر هذا الخلاف بوصفه أحد مفرزات الدولة الحديثة وكان أشدّ وضوحاً واستقطاباً مع دخولنا سيولة العصر الرقمي.
نرى أنّ الخلاف في مسألة التّرحم على من مات مِن غير المسلمين هو في عمومه خلافٌ حادث ولم يكن موجوداً في العصور الأولى؛ إنّما ظهر هذا الخلاف بوصفه أحد مفرزات الدولة الحديثة وكان أشدّ وضوحاً واستقطاباً مع دخولنا سيولة العصر الرقمي

السّياق الثّالث: الديانة الإبراهيميّة وما أنتجته من ثقافة ناعمة

كذلك لا نستطيع أن ننكر أن هناك إرادة سياسيّة تتبناها بعض الأنظمة العالميّة وبعض الأنظمة العربيّة والإسلاميّة بقوّة، وهي تقوم على ترسيخ ما يسمى الدّيانة الإبراهيميّة القائمة على تذويب الأديان كلّها في دين واحد، وتمّ تكريس ميزانيات طائلة لترسيخ هذا المفهوم ثقافياً عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو نوع من تذويب الهويّات الصّارخ.

وهذه السياسات أفرزت عملاً تثقيفيّاً ناعماً عبر جيوش الكترونيّة في الواقع الافتراضي أسهم في تكريس حالة تذويب الهويّة، ويظهر أثرها مع اشتعال المعارك الافتراضيّة بين الحين والحين.

الإطار الشرعي العام لمسألة الترحم على من مات على غير الإسلام

في مسألة الترحم على من مات من غير المسلمين وبعد بيان السياق العام الذي تثور فيه المسألة؛ فلا بدّ من تحديد الإطار الشرعي الذي تُناقش فيه المسألة وتنتمي إليه، وهنا حدث خلط كبير في المسألة أدى إلى غياب حدودها المفاهيميّة، فتمّ التعامل مع المسألة ابتداء على أنّها من أصول الاعتقاد، ومن قضايا العقيدة المركزية، وأنّ الخلاف فيها يؤثر على عقيدة الإنسان إيماناً وكفراً، وإنّ المسألة تحتاج إلى تفكيك هادئ، وهنا سنعلم أنّه تمّ إدخال مسألتين ببعضهما ممّا أدى إلى هذا الالتباس.

من الواضح تماماً أنّ هناك خلطاً وقع بين مسألتين وهما، مسألة الترحم على من مات من غير المسلمين، ومسألة دخول من مات على غير الإسلام الجنّة.
تفكيك المسألة يقتضي أن نقول: إنّ قضايا الجنّة والنار ودخولهما وقضايا المآل في الآخرة هي من مسائل الاعتقاد، لكن قضيّة الترحم على من مات على غير الإسلام هي من مسائل الفقه

تفكيك المسألة يقتضي أن نقول: إنّ قضايا الجنّة والنار ودخولهما وقضايا المآل في الآخرة هي من مسائل الاعتقاد، لكن قضيّة الترحم على من مات على غير الإسلام هي من مسائل الفقه، فعموم من تحدث بهذه المسألة تحدّث عن هذا السّلوك العمليّ ولم يتحدّث عن قضيّة دخول الجنّة والنّار، ولكن إلزام مسألة الترحم من عدمه أنّها تقتضي إدخال الجنة وإدخال النار فهو نوع من إلزام ما لا يلزم، وبسبب هذا الخلط المفاهيمي حدث نوعٌ من التصعيد والتشنج والتترس الذي أفضى إلى اتهام المخالفين في عقيدتهم وإيمانهم.

الموقف من المسألة ومسوّغاته

بعد بيان السياق الهوياتي العام والمفاهيمي الخاص لمسألة الترحم على من مات من غير المسلمين، فإنني مع بالغ احترامي للآراء كلّها أعتقد أنّ الحكم الشرعيّ الذي تقتضيه الأدلة الخاصة التي تمّ استعراضها بشكل واسع في الأيام السابقة والنظرة المقاصديّة العامة ومقتضيات الواقع الموغل في السيولة الهوياتيّة هو عدم جواز الترحم على من مات من غير المسلمين بأية صيغة صريحة في طلب الرحمة أو المغفرة لمن مات على غير الإسلام، ولا أفرّق بين الاستغفار والترحم لاعتبارات عديدة.

من القضايا المهمة التي يجب الانتباه إليها أيضاً مآل القول بالترحم، هو المعنى المتبادر إلى أذهان الجمهور، صحيحٌ أن أغلب المتخصصين القائلين بجواز الترحم على من مات من غير المسلمين عندما أطلقوا هذا الحكم كانوا يقصدون به التخفيف من عذاب النار وليس دخول الجنّة، غير أنّنا لا نستطيع أن ننكر أنّ المعنى المتبادر إلى أذهان الغالبيّة العظمى من الناس عند القول بجواز الترحم هو طلب دخول الجنة لمن مات على غير الإسلام.

وهنا يكمن تكريس مفهوم السيولة في المآل، هذه السيولة التي تجعلنا نقف على أرض شديدة الذوبان في اعتقاداتنا، فعند الاعتقاد بدخول من مات على غير الإسلام الجنة فإن أول سؤال طبيعي سيسأله الإنسان المسلم لنفسه: إذا كان من قضى حياته لا يؤمن بالله تعالى إلهاً واحداً ولا يلتزم بشيء من أحكام الإسلام سيدخل الجنة جنباً إلى جنب مع من قبض على جمر التوحيد وجاهد نفسه ليلتزم أحكام الشريعة، فما النفع من كل هذا الدين الذي نقضي حياتنا في مجاهدة أنفسنا للالتزام به؟
لا بد من التركيز على أنّ التمايز الهوياتي لا يعني بأيّ شكل من الأشكال العداء الهوياتي، والشعور بالعزة الإيمانية واستعلاء الإيمان لا يقتضي ولا يجوز أن يكون معناه غرور التدين والتكبر على أحد من خلق الله تعالى

إنّ القول بجواز الترحم الذي أثمر في أذهان الناس معنى إمكان دخول الجنة لمن مات غير مسلم يفرغ الإيمان من قيمته ويفرغ الإسلام من قيمة الالتزام به، وهنا تكمن خطورة كبيرة.

يجب أن نحرص في هذه الفترة على التماسك الهوياتي في مواجهة السيولة التي تفرضها الدولة الحديثة والانفجار الرقمي وسياسيات فرض الذوبان الاعتقادي الذي تفرضه الهيمنة السياسية تحت عنوان الدين الإبراهيمي، وهنا لا بد من التركيز على أنّ التمايز الهوياتي لا يعني بأيّ شكل من الأشكال العداء الهوياتي، والشعور بالعزة الإيمانية واستعلاء الإيمان لا يقتضي ولا يجوز أن يكون معناه غرور التدين والتكبر على أحد من خلق الله تعالى.

كما أنّ الخلاف في المسألة لا يجوز أن يكون سبيلاً لتفتيت المفتت وتمزيق الممزق وتوسيع الهوة بين أبناء المسلمين، فأمّتنا لا ينقصها مزيد من التمزيق تحت عنوان الانتصار للدّين.

 

twitter.com/muhammadkhm
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الخميس، 26-05-2022 02:58 م
الدولة الحديثة ليست دولة واحدة ، فالدولة الاوربية كما ينص دستورها فهي دولة ذات اغلبية مسيحية ، وتشرعاتها لجميع مواطنيها ، وقوانينها تسزى علي الجميع مسلم واى ديانة اخرى ، رغم ان كل منهم له شريعته ، فاذا نظرت في قوانين الاحوال الشخصية والميراث ستجد ان جميعها مأخوذ اصلا من الشريعة المسيحية وكذلك اصول كل القوانين والتي تحكم الجميع وان كان تم تحديثها شكلا وليس موضوعا ، وكيف تتعامل هذه الدول مثلا مع مواطنيها المسلمين ، فاذا كانت الدولة ذات اغلبية مسلمة فستكون قوانينها اسلامية ، حتي لو لم ينص علي ذلك في دستورها وسيطبق قانونها علي الجميع ، فاين سيذهب المسيحي ، ان النص في الدستور علي الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، هو ما يعطي للمسيحي كل حقوقه وليس القانون ، المواطنة غير الدين فالمواطنة حقوق ووجبات يثاب عليها المواطن او يعاقب بالقانون العام ، وذلك لانه يتسبب في ضرر مادى لمواطنين اخريين ، اما الدين فهو واجب شخصي بين العبد وربه وعمله او تركه لا يؤثر علي احد غيره والاثابة والعقاب شخصيا