هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بصوتٍ هادئٍ وتغطيةٍ متزنة، اعتدنا سماع شيرين أبوعاقلة، عبر قناةٍ واسعة الانتشار حلت ضيفةً مرحباً بها في بيوتنا.. اعتدنا صوتها ووجهها الوديعين فصارا مألوفين.. هما ابنا المكان حقاً، ذلك الانتماء الذي لم تقصر، بل ولم تألُ جهداً أبداً في تأكيده، ولما كان المكان مسلوباً ومغتصباً، فقد كان مجرد حضورها تأكيداً على الإصرار على البقاء، كأنها منغرسةً في هذه الأرض ومن تنقل واقعهم وصراعاتهم تؤكد دائماً الحق القديم الذي لا يقدم ولا يفنى، حقنا في أرضنا، في الحرية والكرامة والعودة، كأن لسان حالها: إنا باقون.. ما بقي الزّعتر والزيتون.
وربما كان هذا الهدوء وتلك الحيادية تحديداً ما أوديا بحياتها؛ فتلك الحقيقة التي تنقل مزعجة، وغير حيادية بالمرة، تتعلق بصراع وجودٍ دامٍ، لا عن فشل محصولٍ في المكسيك مثلاً، هي حقيقة الاستغلال واغتصاب الأرض وتشريد أهلها ومؤامرات الصمت وتجريف الهوية، الاحتلال والإحلال، حقيقة الدم والبارود، وليس أفضل من هدوئها لاقتحام العقول مهما تصلبت وتعنتت والقلوب مهما تحجرت.
عرفنا شيرين ما يزيد على العقدين من الزمان، لذا فليس من قبيل المبالغة القول إننا كبرنا جميعاً معاً، وفي ذلك الفصل الأخير من حياتها المهنية والشخصية كانت تقوم بتغطية غارات جيش العدو الصهيوني على جنين حين أصابتها رصاصةٌ في الرأس أردتها لتسقط شهيدة الواجب والأرض والحق والحقيقة.
زعم الصهاينة أن ذلك حدث إبان تبادلٍ لإطلاق الرصاص بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الصهيوني، إلا أن شهادة زميلها علي الصمودي وآخرين نفت ذلك تماماً، كما أنها كانت ترتدي السترة المخصصة للإعلاميين. لقد كان قتلاً متعمداً لإسكات ذلك الصوت وترويع من قد يفكر في التقدم ليحل محلها في المستقبل، فالصهاينة، شأنهم في ذلك شأن كل الأنظمة الإجرامية (وعلى رأسها العربية بالطبع) يريدون احتكار الخبر، والحقيقة بعدما احتكروا الأرض؛ يريدون لا إقصاء السكان الأصليين فحسب، بل حكايتهم وخبرهم أيضاً. بطبيعة وظيفتها وثقل وزن «الجزيرة» لم يكن بالإمكان تجاهل مقتلها بأي حال، لذا فبالإضافة إلى الكذب بادعاء نيرانٍ فلسطينية (التي لو حدثت لكانت مبررةً بالطبع لإيماننا الأصيل بحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه، إلا أنها لم تحدث) فقد أشارت السلطات الإسرائيلية إلى اعتزامها أو توجيهها بالأمر لإجراء تحقيقٍ في الأمر، ذلك الذي نعلم نتيجته مسبقاً: جندي أو ضابط، شخصٌ فردٌ تافه في نهاية الأمر صوب طلقةً إلى رأسها.. هذا هو سعر الإنسان الفلسطيني، سعر الحق الفلسطيني، الحق في الأرض والحياة والكرامة والمعرفة، سعره يساوي ثمن رصاصة لا أتفه منها. لكن السؤال هو: من الذي وضع البندقية في يد هذا الجندي (أو الجندية) وأباح له وجرّأه وأمنه لقتل الفلسطينيين؟ بالطبع الإجابة الجاهزة والسهلة هي دولة إسرائيل، لكن هذه الإجابة، على صحتها، مختزلةٌ ومبتورة، أسهل من أن تفي أو تقنع. إن النظام الصهيوني مجرمٌ منذ البداية، فالمشروع برمته إجرامي قائمٌ على السلب والتدمير والتهجير، لكن الذي أوصلنا لما نحن فيه لا يرجع فقط لرعونة وإجرام إسرائيل، ولا الدعم الغربي على المستوى الحكومي (هناك تململٌ متنامٍ من سلوك إسرائيل الهمجي في أوساط العامة في الغرب) بل بسبب الظرف الإقليمي وتحديداً العربي. ثمة مؤامرةٌ على «الحقيقة» في المحيط العربي، وإجماعٌ إما على تصفية القضية الفلسطينية وتفريغها من محتواها فعلياً، أو على الأقل الركون إلى كون الأمر الواقع أرسخ وأثقل من أن يُغير أو يُزحزح (وهذا مع حسن الظن)، والمنطلقان يؤديان فعلياً إلى النتيجة نفسها (وعلى هذه الأرضية يمكننا اعتبار أوسلو وما بعدها خطوةً مهمةً، بل مفصليةً، على طريق التسليم والتصفية)، كما أن تلك الأنظمة تجد لنفسها مبرراً إضافياً قوياً في التوتر الذي تشهده دولهم عقب هزيمة الثورات، ومحاولات ترميم هياكلها المهزوزة والمضطربة. في هذا السياق تبدو إسرائيل، خاصةً في حالة النظام المصري، حليفاً مهماً لا خصماً، فقد مضى النظام شوطاً بعيداً في التعاون والتنسيق الأمني معها، ومن ناحيةٍ أخرى في التعويل على وساطتهم لدى الحكومة الأمريكية «لاعتماد» السيسي والتغاضي عن الفشل والعنف اللامتناهي.
كان قتلاً متعمداً لإسكات ذلك الصوت وترويع من قد يفكر في التقدم ليحل محلها في المستقبل
على صعيٍد آخر، عميق الدلالة، فإن هذه الأنظمة، التي تعتقل وتعذب وتخفي عشرات الآلاف، تقتل بدمٍ بارد، وتصفي وتقصف أبناء شعوبها بالدبابات والطائرات، بخّست سعر المواطن العربي وأهدرت إنسانيته تماماً. لسنا في حاجةٍ إلى التنقيب بعيداً أو عميقاً، فقد قالها السيسي صراحةً لضباط الشرطة، إن أحداً لن يحاسب على دم، وأتحفنا وأدهشنا بشار الأسد بمفهومه المتطور عن «المواطنة». قد تتاجر هذه الأنظمة بالقضية الفلسطينية، قد تسوق نفسها داخلياً أمام شعوبها وتستمد منها مشروعيتها، إلا أنها لن تسمح لذلك بأن يتطور إلى صدامٍ أو مواجهةٍ من أي نوعٍ أو اعتراضٍ عميقٍ ذي معنى على قتل الفلسطينيين. على العكس من ذلك تماماً، ففي حقيقة الأمر، إن المدقق ليستطيع أن يجد بسهولةٍ تماهياً عميقاً بين الأنظمة العربية وإسرائيل، فجميعها لا تقيم وزناً للدم العربي، وهم قابلون تماماً، من دون مبالغة، ببقاء الأوضاع على ما هي عليه، مثبتين بذلك أنه كما أن الرأسمال لا دين له فالطغيان والاستبداد والجشع ديدنها واحد وإن تعددت الوجوه.
لئن كان جندي إسرائيلي قد أطلق الرصاصة فالأنظمة العربية أسهمت مع إسرائيل في وضع البندقية والرصاصة في يده وثبتت عزيمته؛ هي التي أعطته الضوء الأخضر وطمأنته وطمأنت قيادته التي ما عليها سوى أن تشير إلى مستوى التعاون الذي يصل حد توسل الخدمات والدعم الأمني والسياسي، من قبل هذه الأنظمة وتشير بأصابعها إلى مدى إجرام هذه الأنظمة تماماً، إذ يكفيها مئات الآلاف من المشردين في سوريا والمقتولين وضحايا النظام المصري، لتؤكد عبرها هذه القيادة الصهيونية رخص الدم العربي وتواطؤ الأنظمة ومن ثم عدم احتمال المساءلة. في سياقٍ آخر لا يصل حد تحمل المسؤولية، فيكفي أيضاً أن نشير إلى مدى التمزق الداخلي والعطب الفكري الذي يسكن هذه الشعوب (جراء ثقافة مزيفة تتحمل الأنظمة مسؤوليتها في المقام الأول من دون شك) إذ انشغل البعض على وسائل التواصل الاجتماعي في حل الترحم عليها من عدمه نظراً لكونها مسيحية.
لقد أسهمت أنظمةٌ تتشارك الإجرام وتتقاسمه في ظل تغاضٍ رأسماليٍ غربي في قتل شيرين، في خنق وقتل صوتنا، وأكمل بعضٌ منا لرثاثة وضعنا في اغتيالها مرةً ثانية.
أعيش على يقين أن الميزان سيعتدل يوماً وسترد الحقوق، وريثما يحدث ذلك يتعين علينا إبقاء الذاكرة حيةً وفاءً لذكرى شهدائنا.
لتطب روحك يا شيرين حيةً وشهيدةً.
لن ننساكِ.
(القدس العربي اللندنية)