هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل أيام، وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادا لاذعا لقرار الرئيس التونسي قيس سعيد حل البرلمان الأسبوع قبل الماضي. وقد انتقد الكثيرون هذا القرار الذي جاء بعد أن أمر الرئيس بتعليق جلساته، ومنع رئيسه، الشيخ راشد الغنوشي من الدعوة لعقده، وعندما عقدت جلسة عبر العالم الافتراضي، تم استدعاء الغنوشي وتهديده. كان رد الحكومة التونسية على لسان وزارة الشؤون الخارجية التونسية، أن تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن حل البرلمان تدخل “غير مقبول”، وأنه يمثل “تدخلا في الشؤون الداخلية”.
هذه التصريحات تسلط الضوء على المفاهيم التي تنظم عمل الدول في القرن الحادي والعشرين، ومنها مقولات “السيادة” و”الأمن الداخلي” و”المسؤولية الأخلاقية”. فبرغم قيام ما يسمى “الدولة الحديثة” في العقود الأخيرة وصدور بروتوكولات كثيرة لتنظيم عملها من انتخابات وشراكة سياسية وتعددية والحق في الحفاظ على الأمن، ما يزال هناك إشكالات حول صلاحيات “الدولة” ومسؤولياتها أمام شعبها وتجاهه، وكذلك التزاماتها الدولية. فهل للدولة سلطة مطلقة على الشعب؟ خصوصا في غياب مؤسسات تمثله ابتداء بالدستور مرورا بالبرلمان ووصولا للقضاء؟
وهنا تطرح عناوين أخرى مرتبطة بالدولة والنظام السياسي وصلاحيات الحكم وحقوق المواطنين. ويعتبر مبدأ “فصل السلطات” من أهم مستلزمات الدولة الحديثة، وبدونه يفترض ألا يوصف النظام السياسي الحاكم بالدولة. هذا الفصل من شأنه، لو وجد بشكل حقيقي، تحقيق قدر من العدل والإنصاف لمن يقطن الأرض المحكومة بذلك النظام. وبرغم ما يقال عن فصل السلطات وتشدق الأنظمة السياسية الحاكمة به، فإن تداخلها حقيقة لا جدال فيها. فمثلا حين يكون رئيس الوزراء في الدولة المحكومة بـ “الديمقراطية الليبرالية” منتميا للحزب الذي يمتلك أغلبية برلمانية، فإن من المستحيل فصل السلطة السياسية عن السلطة التشريعية. فالبرلمانيون المنتمون للحزب الحاكم محكومون بقراراته ومن ثم لا يستطيعون أن يصوّتوا بغير ما يناسب الحكومة التي تنتمي للحزب نفسه.
وهكذا، فإن الجدل مستمر حول المقولات التي يروجها “العالم الحر” والادعاءات التي لا يصدقها الواقع. فمثلا لا يتردد الغربيون عن وصف الكيان الإسرائيلي بأنه “الدولة الديمقراطية” الوحيدة في الشرق الأوسط. فهل هذه حقيقة أم ادعاء فارغ من المصاديق؟ لو كانت كذلك لسمحت بعودة السكان الأصليين للبلد ومشاركتهم في “النظام الديمقراطي”. لو حدث ذلك لسقط الاحتلال؛ لأن الفلسطينيين يتفوقون عددا على المحتلين والمستوطنين. هذه “الديمقراطية الفريدة” في المنطقة، لا تتردد في ارتكاب جرائم القتل خارج القانون وسحب جنسية السكان الأصليين، وارتكاب أبشع أساليب التنكيل والتعذيب بحق من يعترض على سياسات الاستيطان والتمييز ضد السكان الأصليين. وهنا يطرح التساؤل عن حق “الدولة العصرية” في ممارسة هندسة ديمغرافية في البلاد التي تحكمها. وثمة صيغة أخرى لهذه الإشكالية تتمثل بما يسمى “الدوائر الانتخابية” التي كثيرا ما تخالف مبدأ “صوت لكل مواطن”، الذي يفترض أن يكون جوهر العملية السياسية. وكثيرا ما أعيد رسم تلك الدوائر نظرا لعدم تساويها في التمثيل. كما طرح للنقاش أيضا مقولة “التمثيل النسبي” بديلا، لضمان وجود حكومة تمثل الأغلبية بشكل حقيقي. وثمة مثال آخر لهذه الإشكالية البنيوية، حتى في ما يعتبره الغربيون أقرب الأنظمة للديمقراطية الحقيقية. فكثيرا ما حصل المرشح الرئاسي أصواتا أكثر من منافسه، ولكنه لا يفوز بالرئاسة التي تتطلب فوزا بأغلبية أصوات “الكتلة الانتخابية“.
هذه إشكالات ترتبط بالسجال السياسي والفكري حول الدولة الحديثة ومدى إمكان تحققها على أرض الواقع. وتمثل السيادة واحدة من الإشكالات التي تثار بين الحين والآخر خصوصا إزاء الحكومات التي لا تقوم على أساس الخيار الشعبي ولا تصل للحكم عبر صناديق الاقتراع. هذه الحكومات تتعرض بين الحين والآخر لانتقادات الدول الأخرى. وتقوم هذه الحكومات بردود فعل متفاوتة؛ فإن كان النقد صادرا عن دولة قوية لاذت بالصمت؛ لأنها تخشى استمرار الضغوط عليها. ولكن إذا صدر الانتقاد من جهة أخرى، حدث استنفار شامل لأجهزة النظام كافة لشن هجوم كاسح على تلك الجهة. ويندر أن ترد الحكومات على الانتقادات التي توجه إليها بموضوعية بمناقشة القضايا المثارة بأساليب علمية هادئة واستخدام الحقائق لتفنيد الادعاءات. ففي 30 آذار/مارس، وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن، على مسودة مشروع قانون يدعو لمساءلة وزارة الخارجية الأمريكية حول الجهود المبذولة لإطلاق سراح السجناء السياسيين في البحرين، على أن يتم اعتماده بشكل رئيس منتصف أيار/مايو المقبل. وينص مشروع القانون على وجوب تقديم وزير الخارجية الأمريكي تقريرا مفصلا عند الضرورة يتضمن الجهود المبذولة من الإدارة الأمريكية لإطلاق سراح السجناء السياسيين في البحرين، بما في ذلك تضمين مواقف حكومة البحرين من تلك الجهود. فكان ردّها باهتا، بدون أن تتحدث عن تدخل في الشؤون الداخلية. وكتب بعض الكتاب المحسوبين عليها أعمدة تناشد الرئيس الأمريكي “عدم الانخداع بدعاوى الإرهابيين والمغرضين”. فأين الخط الفاصل بين السيادة وحق الدول الأخرى في مساءلة الحكومات عن تصرفاتها مع شعبها؟
يفترض أن تكون حقوق الإنسان واحدة من القضايا التي لا تعتبر إثارتها تدخلا في الشؤون الداخلية للدول. هذا ما توصلت إليه قمة حقوق الإنسان الفريدة التي عقدت في فيينا في العام 1993. فقد اتفق الحاضرون أن تكون حقوق الإنسان عابرة للحدود، وإن كان الغربيون قد تخلوا عمليا عن ذلك المبدأ. تلك القمة عقدت في أجواء مختلفة تماما، إذ جاءت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وخروجه من أفغانستان وانتهاء الحرب الباردة وشعور الغرب، خصوصا أمريكا، بتحقيق نصر كبير. وبعد حدوث أزمة أوكرانيا وتورط روسيا فيها، عاد الحديث عن القضايا المرتبطة بالسيادة والشرعية، وارتفعت الأصوات حول “جرائم الحرب” و“انتهاك السيادة” و“استهداف الديمقراطية”. ولم يخل التعاطي الغربي مع الأزمة من توجهات عنصرية تحدثت عن اللون والعنصر والانتماء الديني للشعب الأوكراني. وهكذا تداخلت إشكالات العدوان من الجوانب السياسية والأخلاقية بأبعاد أخرى غير ذات صلة، وأظهرت غياب القناعة الراسخة لدى “العالم الحر” بمقولات السيادة والقانون الدولي وأساليب فض النزاعات ودور الأمم المتحدة. هذه المنظمة التي يفترض أن تمارس دورا محوريا في قضايا الأمن والسلام والحرية، بالإضافة لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، أصبحت مهمّشة وغائبة عن المسرح الدولي حتى على صعيد الفكر والثقافة والتقنين. وتمثل ظواهر “الانتقائية” و“المعايير المزدوجة”، بعض سمات “الدولة الحديثة” في حلتها الجديدة، اي بعد الانقلاب القيمي على الأسس التي كان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية يتطلع إليه.
ويمثل الموقف إزاء الممارسات الإسرائيلية جانبا آخر من عدم الوفاء لقيم السيادة والعدل، وحق تقرير المصير واحترام الحدود. فمتى أصدرت الأمم المتحدة مثلا أو الدول الغربية شجبا أو استنكارا للممارسات الإسرائيلية خارج الحدود؟ هل تحدثت عن انتهاك “إسرائيل” سيادة تونس مرارا عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية منازل القادة الفلسطينيين؛ مثل أبي جهاد وأبي إياد وقتلتهما؟ أليس ذلك اختراقا فاضحا للسيادة؟