أعلنت محكمة تركية يوم الخميس الموافق
للسابع من إبريل/ نيسان 2022 عن قرارها وقف محاكمة متهمين سعوديين في جريمة قتل
الصحفي جمال خاشقجي ونقل ملف المحاكمة إلى المملكة العربية السعودية.
لم يكن ذلك القرار مفاجئاً، فقد دعا
المدعي العام قبل أسبوع من ذلك إلى نقل ملف القضية التي يحاكم فيها غيابياً ستة
وعشرون متهماً سعودياً من إسطنبول إلى الرياض.
مثل هذه الأمور لا يتوقع المرء حدوثها
في بلد ديمقراطي، حيث من المفترض أن يكون القضاء مستقلاً عن السلطة التنفيذية.
بالطبع قد يرى صناع القرار ضرورة في إحداث تعديلات في علاقات بلادهم الخارجية
سعياً لتحقيق ما يرجون عودته بالفائدة على البلد أو لخدمة ما يعتقدون أنه مصلحة
وطنية، ففي السياسة لا الأصدقاء دائمون ولا الأعداء خالدون. إلا أن أي تبديل أو
تغيير في السياسة الخارجية لا يجوز، ولا يُقبل، في النظام الديمقراطي أن يتضمن
تدخلاً بهدف التأثير على القضاء لتعديل مسار إجراءات ما أو لتوقيفها.
وكان موقع ميدل إيست آي قد استبق
القرار التركي بتقرير نشره في الرابع من إبريل/ نيسان 2022 يفيد بأن المملكة
العربية السعودية تمارس ضغوطاً على تركيا، كجزء من صفقة المصالحة بين الطرفين، لكي
توقف إجراءات المحاكمة المتعلقة بجريمة قتل جمال خاشقجي داخل قنصلية المملكة في
إسطنبول في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018. إلا أن ذلك بحسب التقرير لم يكن
كل ما كان السعوديون يرجون تحقيقه من الأتراك، حيث كانوا يريدون أيضاً من تركيا
استخدام نفوذها لإغلاق ملف قضية ثانية مرفوعة أمام المحكمة الفيدرالية في الولايات
المتحدة من قبل خطيبة خاشقجي السابقة خديجة جنغيز ومؤسسة "الديمقراطية الآن
للعالم العربي"، التي كانت قبل وفاة خاشقجي مجرد فكرة تجول بخاطره ثم ما لبثت
أن خرجت إلى النور بعد الجريمة البشعة التي ارتكبت بحقه.
يعلم السعوديون علم اليقين أنه لا يمكنهم
بحال الطلب من أصدقائهم في واشنطن التدخل في إجراءات المحاكمة، فلا يملك مسؤول
واحد منتخب ديمقراطياً الجرأة حتى على مجرد التفكير بالتواطؤ في مثل هذا الأمر،
ولذلك لربما ظن السعوديون أن الحكومة التركية تملك الضغط على خديجة جنغيز وشركائها
في القضية فتحملهم على التراجع عنها وسحب الملف، وحينها تكون المهمة قد أنجزت دون
تدخل من المسؤولين الأمريكان. يعرف طغاة العرب جيداً حدود ما يمكنهم طلبه من
حلفائهم المنتخبين ديمقراطياً في الغرب، ولكنهم وجدوا ما بدا لهم أنه نقطة ضعف لدى
الأتراك قد تمكنهم من إنجاز المراد.
يعلم السعوديون علم اليقين أنه لا يمكنهم بحال الطلب من أصدقائهم في واشنطن التدخل في إجراءات المحاكمة، فلا يملك مسؤول واحد منتخب ديمقراطياً الجرأة حتى على مجرد التفكير بالتواطؤ في مثل هذا الأمر
وفعلاً، تجلت نقطة الضعف تلك في نزول
المسؤولين الأتراك عند رغبة السعوديين وخضوعهم لمطالبهم، وهو ضعف بالغ الخطورة
يشير إلى أن النظام الديمقراطي التركي مازال في سن المراهقة، كما يعبر عن حسبة
سياسية خاطئة من قبل صناع القرار في أنقرة، فالتنازل الأول سيجر تنازلاً ثانٍ،
وهذا سيأتي من بعده تنازل آخر، وهكذا، مع أن المستبدين العرب المستفيدين من تلك
التنازلات لا يشبعون، ولسوف يطمعون دوماً في المزيد. ولئن كانت لدى الأتراك حاجة
حقيقية للانفتاح على بلدان المنطقة، على الأقل من أجل التخفيف من أعباء الضغوط
التي تتوالى على اقتصاد البلاد وعلى عملتها، ومن أجل ذلك يهرولون نحو المصالحة،
فإن الحكومات العربية في الإقليم لا تقل حاجة هي الأخرى إلى تلك المصالحة، بل قد
تكون إليها أحوج.
يقول بعض الأتراك إن الإجراءات
القضائية التركية بحق قتلة جمال خاشقجي تراوح مكانها على كل حال، فلم لا يتم
إيقافها كبادرة حسن نية لتشجيع السعوديين على إزالة العوائق التي مازالت تحول دون
تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين. حدثني صديق لي بأن الأمر لا يقتصر على منع
السلطات في المملكة المواطنين السعوديين من زيارة تركيا بل إن المواطنين الأتراك
لا يسمح لهم بدخول المملكة، ولا حتى لأداء مناسك العمرة أو فريضة الحج.
إلا أن أصحاب هذا الرأي يفوتهم أمر في
غاية الأهمية، ألا وهو استقلال القضاء، الذي يعتبر واحداً من الأركان الأساسية
للحكم الديمقراطي. ولهذا كانت منظمات ونشطاء حقوق الإنسان على حق حين عبروا عن
قلقهم الشديد إزاء القرار التركي وحذروا مما قد ينجم عنه من تداعيات وعواقب وخيمة.
فالقضاء المستقل هو الضامن الأساسي للحقوق والحريات، وبمجرد أن يقع القضاء في قبضة
السلطة التنفيذية فلن يأمن على نفسه ولا على عمله صحفي أو كاتب أو فنان أو ناشط في
حقوق الإنسان أو معارض سياسي من أي لون.
بحسب ما ورد في تقرير لميدل إيست آي
نشره الموقع أواخر 2013 أو أوائل 2014 حل بالعاصمة البريطانية لندن وفد من
الإمارات العربية المتحدة في شهر نوفمبر 2013 للتوقيع على عقد قيمته ستة مليارات
جنيه إسترليني. إلا أن الوفد الزائر أخبر رئيس الوزراء آنذاك دافيد كاميرون إن
الإمارات تشترط مقابل التوقيع على العقد إغلاق قناة الحوار الفضائية التي تتخذ من
لندن مقراً لها، والتي كانت فيما يبدو تسبب للإماراتيين ومن في خندقهم صداعاً بسبب
دعمها للتوجهات الديمقراطية في المنطقة، وبالذات بسبب تغطيتها لاعتصام رابعة بعد
الانقلاب على الديمقراطية في مصر. نقل الموقع عن مصادر مطلعة أن رئيس الوزراء قال
للوفد الزائر إن الأمور في بريطانيا لا تسير بهذا الشكل، فرئيس الوزراء ليس من
صلاحياته إغلاق أي مؤسسة إن لم تتجاوز القانون، ونصحهم إن كان لديهم مشكلة مع قناة
الحوار أن يتقدموا بشكوى ضدها أمام المحاكم البريطانية، لأن القضاء هو من يملك
إغلاقها إن وجد مسوغاً قانونياً لذلك.
ما فعله رئيس الوزراء البريطاني آنذاك
لم يكن دليل ضعف وإنما دليل قوة، وذلك هو جوهر الفكرة من مبدأ فصل السلطات في
النظام الديمقراطي، وذلك أن استقلال كل واحدة من السلطات هو بمثابة صمام أمام يضمن
ليس فقط حفظ الحقوق والحريات الفردية والجماعية بل ويضمن كذلك صيانة سيادة
واستقلال الدولة.
وهناك سبب آخر لاعتبار القرار التركي
خاطئاً وضاراً. لو تمكن القتلة، من مثل أولئك الذين أزهقوا روح جمال خاشقجي وقطعوا
جثته ثم أحرقوها، من الإفلات من المساءلة والمحاسبة وأنجتهم من العقاب على ما
أجرموا حاجة الحكومات لاستئناف التعاملات فيما بينها، فلسوف يشكل ذلك سابقة بالغة
الخطورة، بل وسابقة في غاية القبح يمكن بسببها أن يخطر ببال النظام المهيمن على
مقاليد الأمور في المملكة العربية السعودية أن يعيد الكرة ضد آخرين لا يرى لهم
حقاً في الحياة، بل ويمكن أن يشجع ذلك الأنظمة المستبدة على استسهال ملاحقة
معارضيها الذين يعيشون في المنافي داخل الحواضر التركية. ولهذا السبب، وحتى مع
احتمال ألا تؤدي الإجراءات القانونية التركية ضد القتلة إلى القصاص منهم، فإن
الفوائد التي تُجنى من بقاء القضية مرفوعة أمام المحكمة أكبر بكثير من المصالح
التي ستتحقق بتوقيفها. يمكن للإجراءات القضائية في حال استمرارها أن تشكل رادعاً
قوياً لمن تسول له نفسه الخروج على القانون.
يمكن للمرء أن يتفهم تماماً رغبة صناع
السياسة في تركيا الدخول في مصالحات مع الأنظمة العربية التي كانوا قد أسخطوها
بسبب تعاطفهم مع ثورات الربيع العربي. أما وقد أخمدت الثورات الآن، وانتكس الربيع
العربي فاستحال إلى شتاء قارص، فليس من المستغرب أن يشعر الطرفان المتخاصمان
بالحاجة إلى طي صفحة الماضي وفتح فصل جديد في العلاقات فيما بينهما. لا ريب أن
تركيا تحملت عبئاً جسيماً بسبب موقفها المناصر للثورات العربية، ولديها كل الحق في
البحث عن سبل للتخفف من بعض مازال يثقل كاهلها من أعباء. ولكن ما كان ينبغي
إطلاقاً أن يكون ثمن ذلك تقويض نظامها الديمقراطي.
ميدل إيست آي