تصادف موعدي مع صديق لي يزور بريطانيا دخول وقت صلاة المغرب، فقال تعال بنا نصلي. قلت وهل يوجد مسجد في هذا الحي، قال نعم. كنا نتمشى في شارع كوينزوي غرب مركز العاصمة لندن، فدخل بنا ما يشبه الزقاق وإذا بنا في الداخل في تجمع كبير من المحلات الصغيرة، وفي زاوية منها مصلى يتسع للعشرات من المصلين. ولجنا وأحد المصلين يرفع الأذان، ثم بعد دقائق أقام الصلاة آخر، فتقدم للإمامة رجل ربما في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات من عمره، كان قبل ذلك قد صلى تحية المسجد إلى جانبي. ملامحه آسيوية، قراءته حسنة، وصوته جميل. وما أن سلم بعد انتهاء الصلاة حتى استدار ليواجه المصلين، وتناول ملفاً أو أوراقاً كانت إلى جانبه وبدأ يدرّس منها. فهمت من كلامه أن ذلك كان ضمن سلسلة من الدروس يلقيها على مسامع المصلين، يبدو في مثل ذلك الوقت من كل أسبوع. وكان درسه باللغة الإنجليزية. أخبر سامعيه بأنه يستكمل معهم حديثاً سابقاً حول الجهمية وانحرافاتهم العقدية ولماذا كفرهم عامة المسلمين، كما قال. وبدأ ينقل عن كتاب قديم، لا أذكر عنوانه أو اسم مؤلفه، مبررات تكفير هذه الجماعة، لمخالفتهم عقيدة التوحيد.
لماذا يحتاج شباب مسلمون، جلهم من المغتربين، معرفة شيء عن الجهمية بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عشر قرناً على اندثارها؟ علماً بأن تلك الجماعة مثل كثير من الفرق التي نشأت في صدر التاريخ الإسلامي كانت نتاج أزمات سياسية شهدتها تلك الحقبة، دراسة تفاصيلها تهم أهل الاختصاص من دارسي التاريخ السياسي وتاريخ الأفكار والفلسفات، ولكن معرفتها لا تعود بأي نفع على عامة الناس من المسلمين، ناهيك عن أنها قد تربكهم وتوقعهم في متاهات، وبشكل خاص حين يجري الحديث عن تلك الجماعات، وما كانت تحمله من أفكار، دون توضيح سياقها الزمني وما شهده الناس في عهدها من فتن، كانت أساساً وليدة الصراع على السلطة.
كان علماء المسلمين في كل حقبة زمنية يتصدون للمبتدعين من أصحاب الأفكار التي يرونها منحرفة، والتي كانت باستمرار لا تلبث أن تنهزم وتزهق أمام سلطان الحق الذي تعهد الله بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". ومن حفظ الله للذكر أنه يقيض للأمة من يدافع عن دينها ويدفع عنه المكائد. ومن هنا نشأ علم الكلام الذي ألفت فيه الرسائل وصنفت فيه الكتب الموسوعية من قديم الزمان، بما تشتمل عليه من دراسة للفرق والمذاهب، نشأة واعتقاداً، وطرح ونقاش لمختلف الأفكار والمزاعم. ولا ريب أنه مما زاد في زخم هذه المعارف وتركيبها استعانة كثير من المتعاملين بها بما ترجم إلى العربية من فلسفات قديمة، وبالذات اليونانية (الهيلينية)، سعياً لإثبات وجهات نظرهم والانتصار إلى مذاهبهم، حتى اقترن علم الكلام بالفلسفة.
ثم، وكما في جل النزاعات السياسية عبر التاريخ، يحتاج كل صاحب واحد من الفرقاء المتنازعين، سواء من اعتبر منهم على حق ومن اعتبر منهم على باطل، إلى أن يجدّ في صياغة ما يلزمه من حجج دينية يثبت من خلالها سلامة موقفه ويبرر سلوكه وينسب الشرعية لنفسه حصراً دون سواه. بمعنى آخر، كان الصراع على السلطة والنفوذ هو منشأ الحاجة إلى التماس المبررات من الدين.
ولعل حكاية الجهم بن صفوان، الذي تنسب إليه الجهمية، هي نفسها دليل على ذلك. يقال إن هذا الرجل كان من خصوم بني أمية وخرج عليهم فقتلوه (عام ١٣٢ هجرية تقريباً). اختلف الناس في حاله بين من يرى أنه قتل بسبب بدعه وانحرافاته، وبين من يجزم، كما فعل بعض المؤرخين، أن قتله إنما كان لخروجه على بني أمية ومطالبته إياهم برد المظالم إلى أهلها وليس بسبب أي انحراف عقائدي صدر عنه أو نسب له، حاله في ذلك حال الجعد بن درهم، الذي ورد وصف قتله في كتب التاريخ على النحو المأساوي التالي: "وقف حاكم البصرة خالد بن عبد الله القسري في يوم الأضحى، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: أيها الناس انصرفوا إلى منازلكم وضحوا - بارك الله لكم في ضحاياكم، فإني مضحٍ اليوم بالجعد بن درهم.. ثم حمل سيفه وذبحه أمام المصلين وهم ينظرون."
لست هنا بصدد نفي شيء مما نسب إلى هؤلاء، ولعل بعضاً أو كثيراً مما نسب إليهم صحيح، ولكن وجهة النظر التي أميل إليها أن ما صدر عنهم إنما كان نتاج حالة من الاستقطاب السياسي، الذي ولد كثيراً من الجدل الفكري، والذي كان في أصله جدالاً حول مدى مشروعية ما كان يصدر عن حكام ذلك الزمان من مبررات لسياساتهم وتعاملهم مع الناس، وخاصة مع خصومهم. وهذا أمر يتكرر في كل الأحقاب والأزمنة، حيث يوجه أصحاب السلطان لمن يعارضونهم شتى أنواع التهم لتبرير ما يتخذونه من إجراءات ضدهم.
من المشهور عن بعض خلفاء بني أمية، مثلاً، وعن علماء السلطان في زمنهم، تبرير ملكهم العضوض، الذي اعتبر انقلاباً على الخلافة الراشدة، من خلال الزعم بأن الله لو لم يكن يريد لهم أن يتولوا أمور الخلق لما تمكنوا من ذلك، فهم بذلك قدر الله على الخلق. من هنا نشأ الجدل حول العلاقة بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، بين من قال بالجبر ومن قال بنفي القدر، ممن سماهم الناس فيما بعد بالقدرية.
ولو عدنا قليلاً إلى عدة عقود سبقت مولد الجهم والجعد، وبحثنا في الأحداث التي ولد من رحمها ما بات يعرف بظاهرة الخوارج، لوجدنا أن الخلاف حول التحكيم في معركة صفين كان هو الأساس، وهذ الخلاف نفسه كان من التداعيات التي نجمت عن الفتنة الكبرى التي بدأت بمقتل عثمان مروراً بما وقع بين الصحابة من نزاع واقتتال وانتهاء بفتك معاوية بن أبي سفيان بالشورى كما نقل عن الحسن البصري رحمه الله.
لا يحتاج عامة المسلمين لأن يُشغلوا بأي من تلك الحكايات، فلديهم اليوم من الهموم والنكبات ما يثقل كواهلهم، ويستحق منهم كل اهتمام، ناهيك عن أن يكون ذلك موضوع درس مقتضب في مصلى صغير في حي من أحياء العاصمة البريطانية، وباللغة الإنجليزية. ولكن، لا أقل في كل الأحوال إذا لزم الأمر من قراءة تاريخية للأفكار والمذاهب والمعتقدات، قراءة منصفة تأخذ بالاعتبار ظروف المولد والنشأة.
"تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".
2
شارك
التعليقات (2)
حسن عبد الله
السبت، 02-04-202209:43 ص
شكرا أستاذ عزام على هذه المقالة.
كما يقولون، كل إناء ينضح بما فيه، فهذا الخطيب يحكي للناس ما تعلمه، والشخص او الشيخ الذي علم ودرس هذا الخطيب قام بتغييب وتحييد مقاصد الشريعة الاسلامية وحصرها في احاديث تاريخية قضت وانتهت لا طائل منها غير قتل الوقت وتدمير اهداف ومقاصد الشريعة، لقد حصر مشايخ الجهل و التخلف واتباع الحكام الظلمة الدين في العبادات من صلاة وصوم وحج واطاعة ولي الأمر كغرض اساسي للدين لا يحيد عنه ولو ظلم الناس وقتلهم ونهب اموالهم ومنح البلاد لأعداء الأمة وتجب له الطاعة مهما فعل من المعاصي بلا حدود وبلا سقوف........................
الدين الاسلامي يتكون من عبادات وأخلاق ومعاملات ويدخل في باب الأخلاق و المعاملات تداول الحكم واقامة العدل ومناصرة المسلمين المظلومين و المضطهدين و المحافظة على البشر و الحجر و البيئة، وبناء أمة كريمة عزيزة ناهضة تأخذ مكان الطليعة بين الأمم حضاريا وعلميا واقتصاديا..................
مطلوب منا ومنكم استاذ عزام أن نعلم الناس أغراض ومقاصد الشريعة وتصحيح المفاهيم الفاسدة التي افسدت أحوال الأمة حاضرا ومستقبلا إذا لم نتدارك ذلك.
هكذا أصبحنا
الجمعة، 01-04-202202:23 م
و هل تركت المخابرات الغربية في دول النفاق الشباب يتكلم فيما ينفع الناس من أمور الثقافة و الإقتصاد و السياسة ،أصبح الفرد يخاف تهمة الإرهاب و يلزم نفسه عدم التفكير لعلهم يسمعون أفكاره فيصبح مشتبه...