"الفساد في العراق بنية لا عرض" هذه العبارة
كنت ولا أزال أكررها كثيرا في كتاباتي منذ عام 2006. وقد تحدثت كثيرا أيضا حول ما
أسميه "الفساد المشرعن"؛ وهو الفساد الذي يحدث في إطار القانون الذي يشرّعُه
الفاسدون أنفسُهم من أجل ترسيخ البنية الزبائنية التي تحكم الدولة، أو من أجل
التغطية على فسادهم، أو في أقل تقدير، من أجل إتاحة الفرصة لهذا الفساد!
بعد إقرار دستور عام 2005، تواطأت المؤسستان التشريعية
والتنفيذية في تمرير قوانين تشرعنُ الفساد عبر سلطتهما، ولعل أبرز مثال على ذلك ما
سمي بالمنافع الاجتماعية! فقد سمحت قوانين الموازنة الاتحادية بمنح أعضاء مجلس
الرئاسة/ رئيس الجمهورية ونائبيه، ورئيس مجلس الوزراء ونوابه، ورئيس مجلس النواب
ونوابه، حق التصرف الارتجالي بمبلغ مليون دولار شهريا، دون ضوابط أو خضوع لرقابة
أو تدقيق حقيقيين!
ولم يتم إلغاء هذه "المنافع الاجتماعية إلا عام 2012!
واستمرت السلطتان التشريعية والتنفيذية في تأطير الفساد
قانونيا، من خلال "تصميم" قوانين الموازنة الاتحادية لتكون كل مادة وفقرة فيها في
خدمة القوى السياسية/ الأحزاب التي حولت مؤسسات الدولة إلى مجرد إقطاعيات لزعماء
تلك القوى والأحزاب؛ من خلال إخضاع ميزانية الوزارات والهيئات أو الجهات غير
المرتبطة بوزارة أو محافظة ، لمساومات وصفقات وابتزاز؛ بداية من اللجان البرلمانية
المعنية بالموازنة، ووصولا إلى لحظة إقرار هذه الموازنة! والمضحك هنا أن المتتبع
لمجريات إقرار المواد القانونية، يمكن له بسهولة أن يعرف لجهة أو الشخص المستثمر
الذي يقف وراء هذه المادة، أو تلك الفقرة، من خلال تحليل مواد قانون الموازنة!
مثال ذلك أن "شخصا" ما وضع فقرة خاصة به شخصيا في قانون
الموازنة لعام 2021، وهي مادة توفر الحل لأمة تمر بها إحدى شركاته، ومؤكد أنه ما
كان بإمكانه أن يمرر تلك المادة دون الاتفاق مع اللجنة القانونية، واللجنة المالية
(وقد كان نائبا لرئيسها)، والاتفاق مع رئاسة مجلس النواب، وأخيرا مع النواب أنفسهم
الذين صوتوا على تلك الفقرة تواطؤا أو جهلا!
إن قانون "الدعم الطارئ" قد فضح حيلة المتنفذين في الاستثمار اللاأخلاقي في الأموال التي تحققت مؤخرا بفعل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية
تجري مؤخرا محاولة أخرى لتمرير وجهة فساد كبير، عبر قانون
يُناقشُ حاليا في مجلس النواب العراقي، وقد أطلق عليه قانون "الدعم الطارئ للأمن
الغذائي والتنمية" بتخصيصات تزيد عن 24.1 مليار دولار! ومن أجل تمريره هُيّئت
الأجواء من خلال انتخاب لجنة مالية مؤقتة خاصة لتمرير هذا القانون، وغالبية أعضاء
هذه اللجنة لا علاقة لهم باختصاص اسمه الاقتصاد أو المالية!
إن قانون "الدعم الطارئ" قد
فضح حيلة المتنفذين في الاستثمار اللاأخلاقي في الأموال التي تحققت مؤخرا بفعل
ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية
يريد الفاعلون السياسيون الذين يقفون خلف هذا القانون أن
يقنعونا أنه بعد فشل 17 موازنة اتحادية، ومئات المليارات من الدولارات، فشلا ذريعا
في تأمين الخدمات، أو في تخفيف الفقر، سينجحون اليوم في تحقيق الأمن الغذائي، من
خلال قانون مؤقت لحين إقرار الموازنة العامة لعام 2022
ولا أحد من المشرعين يأبه للمخالفات والانتهاكات في مؤسسة
يفترض أنها تشرع القوانين، لم يلتفت أحد إلى أن هذا القانون يخالف النظام الداخلي
لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019، الذي يقرر في المادة 42/ ثانيا والتي نصت على أنه
ليس من صلاحية حكومة تصريف الأمور اليومية/ تصريف الأعمال "اقتراح مشاريع القوانين
أو عقد القروض"!
كما أن قانون الإدارة المالية الاتحادية
رقم 6 لسنة 2019 قد قرر في المادة 13 انه في حالة تأخر إقرار قانون الموازنة
الاتحادية يتم الصرف بنسبة 1 إلى 12 فما دون من إجمالي المصروفات الفعلية للنفقات
الجارية للسنة المالية السابقة على أساس شهري، لحين المصادقة على الموازنة العامة
الاتحادية، فضلا عن الصرف من إجمالي التخصيصات السنوية للمشاريع الاستثمارية
المستمرة والمدرجة تخصيصاتها خلال السنة السابقة واللاحقة تبعا لحسابات التجهيز
والتنفيذ، وهو ما يتيح لحكومة تصريف الأمور اليومية القيام بواجباتها دون إشكال،
والدليل أنه مضت ثلاثة شهور دون موازنة اتحادية للعام 2022 ولم يحدث أي إرباك!
والحجة التي "اصطنعها" القانون، ويسوِّقها المستثمرون
الرئيسيون فيه، أن هذا القانون ضروري من أجل الأمن الغذائي والتنمية وتخفيف الفقر،
مع تعكز لا بد منه، بطبيعة الحال، على الأزمة الحالية في الأسواق العالمية نتيجة الحرب
الروسية الأوكرانية، خصوصا فيما يتعلق بمادة القمح!
ببساطة يريد الفاعلون السياسيون الذين يقفون خلف هذا
القانون أن يقنعونا أنه بعد فشل 17 موازنة اتحادية، ومئات المليارات من الدولارات،
فشلا ذريعا في تأمين الخدمات، أو في تخفيف الفقر، سينجحون اليوم في تحقيق الأمن
الغذائي، من خلال قانون مؤقت لحين إقرار الموازنة العامة لعام 2022!
ومن الواضح أن "الاستعجال" في "تدبيج" هذا القانون
المهلهل، جعلهم يتورطون في مهزلة قانونية حقيقية، فالمادة 2/ ثالثا تحدثت عن تمويل
الحساب المخصص لهذا القانون من خلال "القروض الخارجية والداخلية" وبما لا يزيد عن
6.7 مليار دولار. ولكن المادة 3/ رابعا من القانون تحدثت عن تخصيص 10٪ من كامل
الحساب، أي ما قيمته 2.41 مليار دولار من أجل "تسديد المديونية الخارجية وديون
استيراد الغاز وشراء الطاقة"، أي أن القانون يقترض دينا خارجيا ليسدّد، بهذه القروض،
جزءا من الدين الخارجي!
لو كانت ثمة حاجة حقيقية لتأمين الأمن الغذائي للمواطن
العراقي بسبب التطورات الأخيرة، وبسبب تأخير تشكيل الحكومة العراقية، وبالتالي
إقرار قانون الموازنة الاتحادية لعام 2022، لكان بالإمكان الذهاب إلى إقرار قانون
استثنائي يتيح لوزارة المالية توفير ضعف المبلغ الذي كان مخصصا لاستيراد المواد
الأساسية التي تدخل في الحصة التموينية للمواطن العراقي، وكان هذا المبلغ سيكون
أكثر من كاف ليس لتحقيق الأمن الغذائي وحسب، لأن الأسعار العالمية لم تصل إلى ضعف
سعرها، ولن تصله بأي حال من الأحوال، بل لتوفير خزين استراتيجي من هذه المواد، ولن
يزيد هذا المبلغ على 2 مليار دولار في أقصى الأحوال.
إن قانون "الدعم الطارئ" قد فضح حيلة المتنفذين في
الاستثمار اللاأخلاقي في الأموال التي تحققت مؤخرا بفعل ارتفاع أسعار النفط في
الأسواق العالمية، خاصة أن حالة الانسداد السياسي الحالية فيما يتعلق بانتخاب رئيس
الجمهورية وبالتالي تشكيل الحكومة، ومن ثم إقرار الموازنة الاتحادية، قد تؤخر هذا
الاستثمار إلى وقت غير محدد، فكان لا بد من التحايل على ذلك باستخدام تعبيرات
دعائية مثل الأمن الغذائي والتنمية وتخفيف الفقر!