هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حين ينقلب السحر على الساحر، أو، حين ينقلب "المسخ" على صانعه، أو وللتوضيح: حين تنقلب "داعش" على إسرائيل، أو ربّما جناحٌ، أو بعض أجنحة من "داعش" فقط، نرى العَجَب العُجاب.
ففي سبعة أيام أسبوع واحد، هو أسبوعنا المنصرم هذا، ارتبك وضع السلطات الإسرائيلية، بسرعة البرق، أو يزيد، وتحوّلت "أعراسها" إلى "مآتم".
أكبر الأعراس هو "عرس" يائير لبيد، وزير الخارجية الإسرائيلية حالياً، ورئيس الحكومة "البديل" بعد نحو سنة من هذه الأيام. كان هذا "عرس نجاح إسرائيل في الوصول إلى أربع عواصم عربية"، دون الاضطرار إلى عبور الجسر الفلسطيني، وما يترتب عليه من استحقاقات، وأولها انسحاب جيش الاستعمار الإسرائيلي من أراضي الدولة الفلسطينية، كما أقرتها الشرعية الدولية، والتي لا تزيد أصلاً عن 22% من أراضي فلسطين التاريخية.
أول ما كشف مدى اغتباط لبيد، كان إطلاق اسم "قمّة النقب" على اللقاء الذي شارك فيه وزراء خارجية مصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين، إضافةً لوزير الخارجية الأمريكي، وذلك رغم أن تعبير "القمّة" يطلق على لقاء رؤساء الدول، وليس على أي لقاء بمستويات أدنى من ذلك. لكن فرحة "العريس" لبيد بنجاحه في ترتيب هذا اللقاء، طغت على الحقيقة وواقع الحال، وانتشى بتلبية وزراء عرب لدعوته، فأطلق تعبير "القمّة".
ثاني ما كشفت عنه فرحة يائير لبيد، كان اختياره لموقع ما أسماه "القمّة"، فندق في كيبوتس سْديه بوكر في النقب، حيث كان يقيم "مهندس دولة إسرائيل"، دافيد بن غوريون، وحيث مدفنه إلى جوار مدفن زوجته بولا. ورأى كثير من الإسرائيليين في اختيار ذلك الموقع، بالذّات، قراراً بالغ الذكاء: حيث أن اختيار مدينة القدس لعقد اللقاء التاريخي فيها كان سيشكّل "جرعة زائدة"، قد لا يتحملها وزراء الخارجية العرب المدعوّون.
في حين أن استبدال القدس بتل أبيب كان سيدفع غلاة اليمين في إسرائيل إلى تصويب سهامهم إليه، بادّعاء تخلّيه عن "العاصمة الأبدية" لإسرائيل. ونذكر، في هذا السياق، أن مباريات انتخاب ملكة جمال العالم في الصيف الماضي، عقدت في مدينة إيلات، (إم الرشراش)، عند خليج العقبة، بسبب اعتراض كثير من الدول إرسال ملكات جمال دوله إلى القدس، وبسبب رفض وزيرة الثقافة الإسرائيلية، في حينه، على عقد تلك المباريات في تل أبيب.
ومن هنا فإن اختيار لبيد لبلد البيت الشخصي للرمز الإسرائيلي المعروف، وأول رئيس للحكومة، اعتبر، وبجدارة، اختياراً موفّقاً. وقد لا نستغرب أن يكون أي لقاء لاحق من هذا القبيل، في مدينة كريات جات الإسرائيلية التي أقامها الإسرائيليون على أراض وأنقاض قرى عراق المنشية والفالوجة وعراق سويدان وغيرها من القرى الفلسطينية التي هدمتها العصابات الصهيونية في عام النكبة، وحيث كان "البكباشي" جمال عبد الناصر وكتيبته محاصراً أثناء معارك 1948.
أهم الأبعاد السياسية لهذه التطورات هو أن قضية فلسطين أكبر من أن تسطيع إسرائيل تغييبها.
قضية فلسطين أكبر من أن تسطيع إسرائيل تغييبها. وإذا كانت الفذلكات الإسرائيلية قد اخترعت القانون المعروف باسم "قانون الحاضر الغائب" فإن الرد الفلسطيني على هذا القانون الغريب، هو نجاح الشعب الفلسطيني في فرض "قانون الغائب الحاضر".
تغيّر برنامج لقاء "قمّة النقب"، وأُلغيت الفقرة الغنائية من برنامج العشاء الرسمي، والتي كانت ستغنّي فيها مغنيّة يهودية إسرائيلية، أُغنية "هاليلويا هاليلويا" باللغات الثلاث: الإنكليزية والعبرية والعربية، وتحوّل العرس إلى مأتم.
جاءت "عملية الخضيرة" بعد أربعة أيام فقط من “عملية بئر السّبع"، ( والتي قُتل فيها أربعة إسرائيليين طعناً بالسكين، كما قُتل فيها منفّذ العملية، محمد أبو القيعان، البدوي من مدينة راهط في النقب، والذي كان معتقلاً في إسرائيل، حيث حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنين، بتهمة انتمائه لداعش".
ثم لحقت بذلك العملية العسكرية الثالثة مساء الثلاثاء، أمس الأول، وهي “عملية بْني بْراك"، (عاصمة الحريديم، اليهود المتشدّدين، في إسرائيل)، والتي قُتل فيها أربعة أشخاص، كما قُتل منفّذ العملية، ضياء الحمارشة، من قرية يعبَد، القريبة من مدينة جنين، والتي استشهد في أحراشها الشيخ عز الدّين القسّام سنة 1935، وكان لاستشهاده الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، والتي شهدت أطول إضراب في التاريخ، شمل فلسطين كلّها، واستمر ستة أشهُر متواصلة.
لا يفرح أي وطنيٍّ فلسطينيٍّ عاقل، لمقتل أي مدنيّ كان. ولا يؤيّد أي وطنيٍّ فلسطينيٍّ عاقل حركة "داعش" الظّلامية. هذه الحركة التي قتلت من العرب والمسلمين آلافا مؤلَّفة في العراق وسوريا بشكل خاص، وفي غيرها من العواصم والمدن العربيّة والأجنبيّة، ومارست "سبي النساء" وبيعهن، وقتلت الأطفال، ومثّلت بجثث ضحاياها، وقتلت من مسيحيي العراق والأيزيديين لأنهم مسيحيون وأيزيديون.
هذه الفئة المنبوذة، وبحسب كثير من المصادر هي من "اختراعات" إسرائيل وأمريكا، ومعروف أن إسرائيل زودتها بالسلاح، وعالجت جرحاها، “لأسباب إنسانية" (!!!)، في مستشفيات صفد ونهاريا في الجليل، نفّذت، حتى الآن، عمليتين دمويتين استهدفتا إسرائيليين. هذا ما يذكّرنا بكيف انقلبت “القاعدة"، (التي أنشأتها ورعتها أمريكا، لمقاتلة القوات السوفياتية، عندما احتلت هذه القوات أفغانستان من نهاية 1979 حتى بداية 1989)، لتضرب أهدافاً ومدناً أمريكية.
أربكت هذه العمليات العسكرية الثلاث كل السياسات الإسرائيلية. لكن فيها من المفارقات، (من جرّاء وجود نحو مليوني فلسطيني عربي في أراضي الـ48، يحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية)، ما يلفت الانتباه:
ـ الجندي في سلاح حرس الحدود الإسرائيلي، الذي قُتل في عملية الخْضيرة، هو الشاب العربي الدرزي، يزن فلاح، (الذي يخضع لقانون التجنيد الإلزامي الإسرائيلي)، من قرية كسرى في الجليل. وأما الجندية الإسرائيلية، التي قُتلت في نفس العملية، فهي شيرئيل أبوقراط، فقد قالت أمّها دفورا في تأبينها “.. أُريد ابنتي، لماذا؟ لماذا؟ ضعوني مكانها، لقد هربنا من فرنسا ليكون لنا أمان هنا، ولكنها راحت هنا، في دولتنا، هذا ليس منطقياً، أردت أن أُعطيهم (أولادي) حياة جيّدة وأمانا".
ـ شقيق أيمن إغبارية، (أحد منفّذي عملية الخضيرة) شرطي في قسم التحقيق في مركز شرطة كفار سابا، على بعد كيلومترات قليلة من الخضيرة، وقال زملاؤه في الشرطة إنه "محقق جيّد، وحائز على شهادات تقدير، وإن علاقاته بشقيقه أيمن مقطوعة منذ سنين".
ـ أما عملية الخضيرة نفسها فقد تمّت في شارع هِربرت ساموييل، المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين، الذي وُلِد لعائلة يهودية أرثوذكسية، تعمل بتجارة الذهب والأعمال المالية، وتقديرا لخدماته للحركة الصهيونية، أطلقت بلدية الخضيرة اسمه على الشارع الرئيسي في المدينة.
ـ تم نقل جرحى عملية الخضيرة إلى مستشفى هيليل يافيه في المدينة، وكان الذي تولّى عمليات العلاج الأولى لهم هو الدكتور جلال أشقر، (من مدينة باقة الغربية، القريبة من مدينتي أُم الفحم والخضيرة)، بصفته مدير قسم الطوارئ في المستشفى، منذ 19 سنة.
ـ انتهت "عملية بْني بْراك" التي قُتل فيها خمسة إسرائيليين، كما تم قتل منفّذ العملية، ضياء الحمارشة، أيضا. ومن المفارقات أن الشّرطي الإسرائيلي الذي تبادل إطلاق النار مع ضياء، وقتل كلٌّ منهما الآخر، هو الشرطي الفلسطيني العربي، أمير جريس خوري، (من مدينة الناصرة العليا).
هذا عن أحداث ومفارقات الأسبوع الأخير. لكن أهم الأبعاد السياسية لهذه التطورات هو أن قضية فلسطين أكبر من أن تسطيع إسرائيل تغييبها. وإذا كانت الفذلكات الإسرائيلية قد اخترعت القانون المعروف باسم "قانون الحاضر الغائب" الذي صادرت بموجبه أراضي وبيوت وأملاك اللاجئين الفلسطينيين في مناطق الـ48، والذين يحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية، (وعددهم الآن يزيد على 500 ألف مواطن)، فإن الرد الفلسطيني على هذا القانون الغريب، هو نجاح الشعب الفلسطيني في فرض "قانون الغائب الحاضر"، حيث تبقى قضية فلسطين عصيّة على محاولات التغييب الإسرائيلية.