مقالات مختارة

مفارقات مؤلمة في الحرب على أوكرانيا

محمد كريشان
1300x600
1300x600

كلاهما اعتذر، ولكن ما خرج على لسانيهما لم يكن صدفة ولا هو بغريب عما يفكّر فيه في قرارة نفسه «الضمير الجمعي» في كثير من الأوساط الغربية.


«أوروبيون شقر بعيون زرقاء (..) هذه ليست العراق أو أفغانستان فكييف مدينة متحضرة نسبيا» قالها الصحافي الأمريكي مراسل قناة «سي بي أس» في العاصمة الأوكرانية، فيما المذيع البريطاني بقناة «الجزيرة الإنكليزية» يصف اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الحرب بأنهم ليسوا كاللاجئين في الشرق الأوسط «هم مثلنا وكأنهم جيراننا من الطبقة الوسطى».


الأول اعتذر على الهواء لاحقا، فيما سارعت إدارة القناة الثانية إلى إصدار بيان اعتذار عما قاله مذيعها بعد استنكار مشابه لمقارنات تنم عن عنصرية دفينة ترى أن الحرب والدمار والمعاناة أو الموت قد «تليق» بهذا الشعب وهذه المنطقة لكنها قد لا «تليق» بشعب آخر.


لم تكن مثل هذه التعليقات «المرتجلة» بالجديدة بل سبقتها أخرى في أغلفة مجلات مثل «إيكونوميست» البريطانية التي اختارت عام 2003 عندما اجتاحت القوات الأمريكية العراق صورة الرئيس جورج بوش بالألوان على كامل الغلاف مع عنوان يقول «شن السلام» (على وزن شن الحرب) لكنها في الغزو الروسي لأوكرانيا ارتأت أن يكون هذه المرة غلافها صورة ظل أسود لبوتين، في هيئة شبح، مع دبابة رابضة في دماغه وعنوان يقول «أين سيتوقف»؟.


قد يكون بلا معنى أن نكرّر هنا ما كانت تصرخ به الحناجر في مظاهرات حاشدة، أو تصريحات غاضبة، أو مقالات محبطة، طوال سنوات أو عقود تطالب بنجدة الشعب الفلسطيني تحت القصف في غزة أو تحت عربدة الاجتياحات المتكررة في الضفة وعمليات القتل والاغتيال ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وفي رقعة تصفها كل القرارات الدولية بالأراضي المحتلة؟!! أو كذلك ما كان يحدث للعراق وأهله، فالكل يذكر أنه عندما سئلت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة عن رأيها في تسبب الحصار في موت أكثر من نصف مليون طفل عراقي أجابت قائلة في برنامج تلفزيوني بما معناه «قتل خمسمائة ألف طفل عراقي، كان أمرا يستحق ذلك» وهو ما تداركته بعد فترة بالاعتذار والقول «هذا أغبى شيء قلته».


قد لا يكون بلا معنى كذلك أن نستعيد الموقف الدولي مما جرى في أفغانستان من ويلات بعد اجتياحه والمكوث فيه لعقدين كاملين، أو سوريا ومأساتها الفظيعة تحت نظام حكم بشار الأسد وتحولها إلى مرتع للقوات الأمريكية والروسية والإيرانية والتركية والإسرائيلية وما أدى إليه القصف الهمجي للمدنيين بالغارات والقصف والبراميل المتفجرة من هجرة ونزوح الملايين من أبناء الشعب السوري وما صاحب ذلك من مآس لا حصر لها، فضلا عن استعمال السلاح الكيميائي والتعذيب والقتل الممنهج في سجون النظام، وكل ذلك بدعم واضح ورسمي من الرئيس بوتين نفسه الذي تعلو الأصوات الآن مستنكرة اجتياحه أوكرانيا. وكذلك اليمن وما يجريها فيها من حرب لسبع سنوات عانى خلالها المدنيون من القصف والغارات والتفجيرات ما لا يحصى ولا يعد. والأمثلة عديدة…


قد لا نستطيع الجزم بأن هؤلاء لم يلقوا الاهتمام اللازم بعد أن نـُظر إليهم على أنهم «ليسوا شقرا ولا ذوي عيون زرقاء» وأغلبهم من الفقراء المعدمين لأن أهالي البوسنة مثلا تعرضوا في تسعينيات القرن الماضي لتقتيل وتطهير عرقيين رهيبين تحت أنظار العالم كله ولم تقع نجدتهم إلا بعد خسائر فادحة مع أنهم شقر وعيونهم زرق.. فهل لأنهم مسلمون؟! السؤال موجه إلى الجميع اليوم.


الأنكى من كل ما سبق أن الحرب الروسية على أوكرانيا فتحت المجال أمام مفردات محددة من القاموس السياسي التي كانت مستهجنة فإذا بتداولها اليوم يصبح عاديا، من بينها «المقاومة» التي هي طبعا مشروعة للأوكرانيين في وجه الروس لكنها ليست كذلك لغيرهم حتى وإن تعرضوا لهجوم ظالم. أكثر من ذلك، قد تتحول مقاومتهم إلى «إرهاب» وفي أحسن الحالات قد يوضعون على قدم المساواة مع المعتدي في التصريحات والمواقف الغربية، دون أي شعور بالحرج أم التناقض.


هناك أيضا «إمداد الأوكرانيين بالسلاح» وقد بات اليوم ممارسة معلنة في وقت كان فيه محرّما بالكامل على غيرهم إلا سرا أو تهريبا، وهو طبعا مستنكر ومدان وغير مسموح به أصلا إذا تعلق الأمر بالفلسطينيين، أما مع السوريين فيجب أن يخضع لغربلة غربية دقيقة جدا حتى يخضع للحسابات المعقدة المتعلقة بذلك البلد وأولها عدم السماح بسقوط الأسد. هناك أيضا «إرسال متطوعين» للقتال إلى جانب الأوكرانيين فقد دعا إليه جهارا الرئيس الأوكراني وأوجد لهم «فيلقا دوليا» وأعفاهم من التأشيرات ووجد من يصرح بدعم توجه كهذا مثل وزيرة الخارجية البريطانية مع أن نفس المبادرة يطلق عليها في حالات أخرى إرسال «الإرهابيين الأجانب» إلى بؤر النزاع!


لا ننسى كذلك «عدم خلط الرياضة بالسياسة» عندما كان يتعلق الأمر بفلسطين ورفض التطبيع مع الاحتلال لكنه مع روسيا فوري وسريع.


هل نقف عند هذا الحد أم نواصل؟!!

 

(القدس العربي)

2
التعليقات (2)
كاظم صابر
الجمعة، 04-03-2022 08:57 ص
مقال رائع من الاستاذ محمد كريشان ، و الروعة فيه تتجلى بالربط بين الاحداث مع استذكار ما جرى فيها من تشابهات و تناقض أحكام ساسة الغرب حولها او الكيل بمكيالين . أثناء وجودي في أوروبا ، أتاني زائر عربي - مدفوعاً أو مندوباً - منذ أكثر من 4 عقود ليقول لي و يكرر على مسامعي قولاً سخيفاً و هو أن شعب ذلك البلد "يستحق الحياة " . وجه السخافة فيه أنه يعني أن شعوباً أخرى "لا تستحق الحياة " و من بينها بالطبع شعوبنا العربية . من تعليم ديننا الإسلامي ، أن الناس سواسية كأسنان المشط و الله قد خلقهم جميعاً فإذن يستحقون الحياة جميعاً إلى آجال محددة . لا فضل لأبيض على أسود و لا لأحمر على أصفر و لا لعرق رومي على عرق سلافي أو بالعكس . العنصرية المزروعة في أوروبا كانت و لا تزال من أكبر معوقات تقدمها ، و لا يتوقع في المستقبل القريب أن تخرج أوروبا من تحت عباءة أمريكا فتمتلك إرادتها و تتوحد و تنافس على عرش العالم !
سامي درويش
الأربعاء، 02-03-2022 12:31 م
ينصر دينك ايها الاعلامي الكبير الاستاذ محمد كربشان ونعم الناس تحياتي واحترامى للنموذج الاعلامي المثقف .