هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية تقريرا سلّطت فيه الضوء على انعكاس محنة أقلية الإيغور المسلمة في الصين على الغرب الذي وصفته باللامبالي والمتبلد.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، والذي يأتي ضمن سلسلة خاصة عن الإيغور، عملت عليها، كاتي ستولارد: "نعلم أن الطغاة الشعبويين يتقوون بالفظائع التي يرتكبها كل منهم، فكم يلزم المزيد من الإخفاءات حتى نقول إن الصين تجاوزت خطوط الغرب الحمراء؟".
وتاليا التقرير الرابع ضمن السلسلة بعنوان: "محنة الإيغور تثبت أن أكبر تهديد للديمقراطية يكمن في تبلد الغرب ولامبالاته"، من إعداد أليف شفق:
"لا شيء يعادل الخوف في عدواه"، هذا ما كتبه بريمو ليفي، الكاتب والمفكر اليهودي الإيطالي الذي نجا من فظائع أوشويتز، والذي ترك لنا تحذيرات متبصرة حول احتكار السلطة والعمل الممنهج لتجريد الآخرين من الكرامة الإنسانية. تتردد كلماته في رأسي حينما أتأمل فيما يمارس من تنكيل بحق الإيغور وغيرهم من الأقليات التركية الأخرى في الصين اليوم.
نعيش في عصر لدينا فيه الكثير جداً من المعلومات ولكن القليل من المعرفة، وقدراً أقل من الحكمة. فهذه المفاهيم الثلاثة ليست سواء، بل هي مختلفة تماماً. والحقيقة هي أن وفرة المعلومات وزيادتها عما هو مطلوب وما يرافق ذلك من شعور بالكبر والخيلاء، يغدو عقبة في طريق الحصول على المعرفة والحكمة الحقيقيين.
نتعرض يومياً لقصف بمقتطفات من الأخبار المتجهمة من كل أنحاء العالم. فهناك الأزمة الإنسانية المتفاقمة في أفغانستان حيث يواجه الملايين المجاعة، والمهاجرون واللاجئون البائسون الذين يلقون حتفهم غرقاً على حدود أوروبا، والاعتداءات على المدافعين عن حق الإجهاض في الولايات المتحدة، واستخدام الاغتصاب سلاحاً عسكرياً وسط التطهير العرقي الممارس ضد التيغرانيين في إثيوبيا، والانقلاب العنيف في ميانمار. وبالتزامن مع ذلك كله هنالك الأزمة المناخية المتفاقمة، والأزمة المالية الوشيكة، والأزمة المتربصة بالديمقراطية الغربية والتعددية السياسية.
يستدعي هذا السيل العرم من المعلومات استهلاكاً أسرع. ولكننا نتأرجح بين هذا الخبر وذاك، ونتعامل مع كل حادثة باعتبارها حدثاً ذرياً منفصلاً – حتى يصبح الأمر فوق قدرتنا على الاحتمال، وننزلق نحو حالة من الاكتئاب. وعندها، نتوقف عن سماع الأخبار وننكفئ على حياتنا. فحينما يحدث كل هذا، وبمعدل ضخم في اليوم الواحد، فإن الذي يخطر ببالنا هو التساؤل عما يمكننا فعله لتغيير أي شيء. وهكذا نخسر المعركة في النضال ضد السلطوية والطغيان.
دعونا إذن نعود إلى مذكرات أولئك الذين نجوا من أكثر فصول التاريخ حلكة، فهم الذين بإمكانهم أن يرشدونا بما أوتوه من حكمة وشجاعة. وكما حذرنا بريمو ليفي، وكان محقاً في ذلك، فإن الخوف شديد العدوى، والطغاة يدركون ذلك جيداً. إلا أن المستبدين والديماغوجيين يعرفون أن ثمة شيئاً آخر شديد العدوى كذلك، ألا وهو الخدر – ما يعترينا من لامبالاة وانفصال عن الحدث كمواطنين في هذا العالم. إذا كانت الحكومة الصينية تملك اليوم الاستمرار في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية من خلال تعاملها مع أقلية الإيغور، فما ذلك إلا لأنها تدرك كيف يعمل الخدر، فتعتمد عليه.
متى يعتبر انتهاك حقوق الإنسان "فظيعاً بما يكفي" لجذب انتباه الجمهور العالمي ويثير حفيظته؟ كم من الفظائع يتطلب الأمر حتى ترد الحكومات في الغرب على الإبادة الجماعية التي ترتكب في جزء آخر من العالم؟ كم من المزيد من الإخفاءات أو حالات التسخير القسري يحتاج الأمر قبل أن تتجاوز الصين خطوط الغرب الحمراء؟ كم من المزيد من الأطفال يحتاجون لأن يحولوا إلى دور الأيتام ولأن ينتزعوا من عائلاتهم، ولأن يجبروا على نسيان لغتهم وهويتهم؟ وكم من المزيد من النساء ينبغي أن يتعرضن للتعقيم قسراً أو للاعتداءات الجنسية؟
والحقيقة هي أننا بتنا الآن نعلم يقيناً ما الذي يجري في الصين. فقد بين تقرير منظمة هيومان رايتس واتش الذي صدر في نيسان/ إبريل من العام الماضي كيف أن الصين مسؤولة عن "سياسات الاعتقال الجماعي والتعذيب والتنكيل الثقافي." يزعم قادة الغرب وجود خطوط حمر – ومن هنا جاءت مقاطعة الولايات المتحدة الدبلوماسية لألعاب بيجينغ الأولمبية – ولكن ثمة شكوك حول ما إذا كانت ثابتة. ما من شك في أن الحكام السلطويين يستفيدون من مثل هذه الضبابية، ويكتسبون مزيداً من القوة كلما تحولت المطالب وتبدلت الشروط.
وبينما يواجه الغرب تبلده ولا مبالاته، يصم الآذان صمت البلدان ذات الأغلبية المسلمة – بما في ذلك بعض أغنى الدول في العالم – إزاء ما يتعرض له الإيغور من تنكيل واضطهاد. بل تجاوز الأمر مجرد الصمت: إنها مقايضة سافرة. ففي عام 2019، عندما وقعت مجموعة من البلدان الأوروبية في الأغلب على خطاب موجه إلى المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة تنتقد فيه الصين وتندد بمعاملتها للأقليات، سارعت ثلاثون دولة أخرى نحو التوقيع على خطاب بديل. ومن خلال اللجوء إلى معلومات بديلة، راحت هذه الدول تشيد بإنجازات الصين الباهرة في مجال حقوق الإنسان. عندما تشوه الحقيقة فإن ذلك أيضاً يصب في صالح السلطويين.
علينا أن ندرك كيف يشجع القهر الذي يمارس في جزء من العالم ممارسة القهر في جزء آخر منه. يتقوى الديماغوجيون الشعبويون والطغاة بحضور بعضهم البعض وبما يمارسونه من فظائع. في شهر يونيو / حزيران من العام الماضي، وفي عملية اختطاف غير مسبوقة، أجبرت السلطات في روسيا البيضاء طائرة تقوم برحلة بين بلدين من بلدان الاتحاد الأوروبي على الهبوط اضطرارياً حتى يتسنى لها إلقاء القبض على صحفي منتقد للنظام. وبعد أيام قليلة، دفعت الحكومة التركية حلفاءها في حلف شمال الأطلسي نحو التخفيف من حدة ردهم على هذا الانتهاك المفزع لحقوق الإنسان، فما كان من روسيا البيضاء إلا أن شكرت تركيا علانية على موقفها الداعم لها.
بات هذا التدويل للأنظمة السلطوية أمراً نحتاج جميعاً لأن نقلق بشدة إزاءه. بينما يستمر كثير من الأمريكيين في الاعتقاد بالكلام الفارغ حول الاستثنائية التي تتمتع بها الولايات المتحدة وبينما تجهد دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة التيار الشعبوي المتصاعد فيها، فإن من المحزن أن نرى أن الطغاة يدركون قوة التعاون الدولي أكثر بكثير مما يدركه نظراؤهم الديمقراطيون.
في كل مرة نخفق في التحقيق فيما يرتكب من انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان، في كل مرة نغض الطرف عن الفظائع لأن لدينا صفقات تجارية أو تعاملات مالية، فإننا نراقب عن كثب ليس فقط من قبل حكومة البلد المعني بل وأيضاً من قبل الأنظمة السلطوية الأخرى حول العالم. فهم يعلمون أنه حينما يكون الخدر هو الرد على أحدها فإن الفائدة من ذلك ستعود عليها جميعاً.
وبهذه الطريقة تخسر الديمقراطية، ليس فقط هناك ولكن أيضاً هنا، وفي كل مكان.
للاطلاع على التقارير السابقة في السلسلة: (التقرير الأول) (التقرير الثاني) (التقرير الثالث)
- أليف شفق روائية وناشطة بريطانية من أصول تركية