صحافة دولية

مجلة: الثقافة الإيغورية التاريخية تتعرض لتهديد وجودي

تحاول الصين سلخ الإيغور من ثقافتهم وتاريخهم- جيتي
تحاول الصين سلخ الإيغور من ثقافتهم وتاريخهم- جيتي

قالت مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية، إن الثقافة الإيغورية التاريخية تتعرض لتهديد وجودي، من قبل الحكومة الصينية.


وسلطت المجلة في سلسلة تقارير تنشرها "عربي21" تباعا، الضوء على التاريخ الإيغوري في الصين، والموروث الثقافي لهم.

 

وتحدثت عن منطقة كشغر الواقعة أقصى الحدود الغربية للصين، والموصولة بالسكك الحديدية، والمصانع التي تربط الجمهورية الشيوعية بمصانع العالم الكبرى.

 

ويقول التقرير الذي يأتي ضمن سلسلة خاصة عن الأيغور، تعمل عليها، كاتي ستولارد إنهم ما يزالون متمسكين بعاداتهم وثقافتهم، برغم محاولة الحزب الشيوعي الصيني سلخهم عن ماضيهم.

 

والتقرير الثالث ضمن السلسلة من عمل الصحفيين ريان ثوم وموسابير.

 

وتاليا نص التقرير كما ترجمته "عربي21:

يصعب على المرء ألا يلاحظ في مدينة كشغر القديمة عمال المعادن الإيغور. وسط ضجيج المطارق، تغري أباريق الشاي النحاسية بما تحلت به من تصاميم نباتية متشابكة السياح وتجذبهم إلى المحلات الزاخرة بالأواني والأوعية المزركشة. على مسافة ليست بعيدة منها يعكف الحدادون على طرق المفصلات ورؤوس المجارف وغير ذلك من أدوات الاستخدام اليومي على السنادين المنصوبة أمام دكاكينهم.

 

تقع كشغر داخل أقصى الحدود الغربية لجمهورية الصين الشعبية، وهي موصولة جيداً عبر خط للسكة الحديدية بالمصانع في الاقتصاد الصناعي الأكبر في العالم. على بعد بضعة أميال من محلات الحدادين، يمكن شراء المفصلات وأدوات الزراعة التي تنتجها تلك المصانع بكميات كبيرة وتباع بأقل الأسعار في العالم. إلا أن هذه الأشياء لا تبدو لا من حيث المظهر ولا الملمس مضاهية لمفصلات ومجاريف الحرفيين الإيغور، الذين تلقى تجارتهم الدعم من الزبائن المحليين في كشغر، إذ يرغب الكثيرون من هؤلاء الزبائن في أن تكون المعدات التي يقتنونها ذات مواصفات تليق بثقافتهم وذات قدرة على إنجاز ما هو مرجو منها.

 

تستشري مناعة هذا التميز الثقافي في مجتمع الإيغور على الرغم من الجهود التي يبذلها الحزب الشيوعي الصيني لإكراه الإيغور على تبني عادات وأذواق وأنماط إنتاج الأغلبية العرقية الصينية، الهان. تشاهد في مختلف أرجاء منطقة الإيغور أطلال المدن التاريخية القديمة التي عفا عليها الزمن، إلا أن الإيغور يشيدون منازل صممت على نفس الطراز في الضواحي الحضرية. في نهاية الستينيات من القرن الماضي تعرضت شبكة مواقع الحج المقدسة لدى الإيغور إلى الإغلاق وظلت كذلك لعقدين من الزمن، ثم عندما خففت القيود المفروضة في الثمانينيات، بعثت الحياة في تلك المقدسات من جديد. واليوم، يستخدم الموسيقيون الإيغور وظائفهم في مسارح الدعاية الحكومية لدعم الجهود الفنية التي يبذلونها.
 
بطريقة أو بأخرى، لا تختلف التجربة الشعورية الناتجة عن زيارة إلى الريف الإيغوري كثيراً عن رحلة يقوم بها المرء إلى أوزبكستان أو شمال أفغانستان. فحدائق الريف الغناء بما فيها من صفوف من الأعمدة الخشبية المنحوتة والمتداخلة فيما بينها، وهزيج الكلمات التركية الموشحة بمفردات مستعارة من الفارسية، والظل الرحب لأشجار الحور الفضية المائلة للخضرة على جانبي الطريق – كل ذلك يشهد بجغرافية وتاريخ تشترك فيهما آسيا الوسطى. وما لبث الإيغور يُحكمون مباشرة من قبل بكين لما يقرب من القرنين والنصف، ولكنهم ثقافياً ما زالوا يولون وجوههم غرباً.
 
بحلول القرن الحادي عشر، وقعت منطقة الإيغور، ومعها كذلك الأراضي المنخفضة – الجافة ولكن الخصبة في نفس الوقت – والتي تحتضن سلاسل الجبال العظيمة في آسيا، لحكم الشعوب التركية البدوية. وما أن تخلى الترك عن حياة البداوة، حتى اعتنقوا الإسلام وراحوا يمولون ويلتهمون الفنون المتطورة لدى النخب الأدبية والفكرية الناطقة بالفارسية.
 
في آداب الحقبة الوسيطة، عرف محمود الغزني (أو الغزنوي)، الزعيم التركي في القرن الحادي عشر، بولعه بغنائم الحرب – لدرجة أن إحدى الأساطير تتحدث عن أنه أمر بأن تعرض جميع مقتنياته من الكنوز أمامه بينما كان ممداً على فراش الموت. ولكنه كان أيضاً ينفق من ثروته لتمويل تأليف الشاهنامه، "كتاب الملوك" الفارسي، والذي يعتبر الآن مفخرة أدبية وطنية في إيران.
 
على الرغم من أن محمود كان يحكم انطلاقاً مما بات الآن أفغانستان، إلا أنه يبرز في قصائد الملاحم الإيغورية، وهو يبتعث الجنود لإلحاق الهزائم بعدوه البوذي. ويزعم الإيغور أنه يوجد في بلادهم قبر أكثر الشخصيات مأساوية في "كتاب الملوك"، البطل الإيراني سيافوش، الذي قضى نحبه قتلاً على يد والد زوجته المنحدر من أصول تركية.
 
على مدى العصور، اتخذ الإرث المشترك لشعوب آسيا الوسطى أشكالاً محلية متميزة في منطقة الإيغور، كما يشاهد في ضريح آفاق خوجه، الصوفي المسلم الذي حكم المنطقة في أواخر القرن السابع عشر. بقبته المبلطة فوق قاعة مجوفة ومآذنه التي تعانق السماء كالأبراج عند كل ركن من أركانه الأربعة، يحاكي الضريح النفائس المعمارية الفيروزية التي كسى بها قبل ثلاثة قرون من ذلك تيمورلنك، أشهر بنائي الإمبراطوريات في آسيا الوسطى، عاصمته سمرقند.
 
ولكن الذي حصل هنا أن التيموريات الزرقاء أضيفت إليها بلاطات بينية وصفراء وخضراء، فتشكلت منها مجموعات من القطاعات والرقاع وما يشبه لوحات الشطرنج. وتمتاز المآذن بالمتانة مع انتفاخ بسيط في الأعمدة الدورية، وحيثما نجت البلاطات من عوامل الطبيعة فلن تجد طوبة واحدة مكشوفة، حتى إن الضريح يشع في ضوء الشمس كما لو كان صندوقاً مطلياً بالمينا.
 
في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تحول الحكومة الصينية الضريح إلى موقع سياحي، كانت الصبغة المحلية للمبنى أكثر سحراً وجاذبية. في الساحة الأمامية توجد قاعدة يقوم عليها برج من قرون الغنم الضخمة. وترفرف رايات الحجيج فوق صواري صنعت يدوياً تندفع منها أيضاً أذناب الياك. يأتي الناس من عرقية الهوي، وهم مسلمون ينطقون باللغة الصينية، من الأقاليم النائية، وقد تبنوا تقاليد الحج الإيغورية فساهموا هم أيضاً بوضع راياتهم بما عليها من أدعية وصلوات كتبت باللغة الصينية.
 
لا تكاد تخلو زاوية من الأرض الإيغورية من أضرحة الصالحين، وإن كان لا يوجد من بينها ما يضاهي المعلم المقام على ضريح آفاق خوجه. وبعيداً عن المدن، تتضاءل الفنون المعمارية، وفي المواقع الصحراوية النائية تهيمن الرايات والقرابين على المشهد. في بعض الأماكن المقدسة، تجد صواري الرايات قد ربطت معاً في حزم عظيمة كما لو كانت مكانس مقلوبة رأساً على عقب، ترتفع إلى عشرة أمتار أو أكثر في السماء. ولعل في تشابهها مع ما لدى البوذيين مما يعرف باسم لابتسه، أو معابد السهم الضيقة، في التبت المجاورة ما يشير إلى جذور ثقافية مشتركة.
 
كان الحجيج فيما مضى يتوافدون ليشاركوا في مهرجانات عظيمة تقام فوق ضريح آفاق خوجه وأضرحة غيره من الأولياء. وتقام حول ذلك الأسواق، وينشط الحكواتيون طمعاً في ما يجود به الآخرون عليهم من مكافآت، ويبتهل المؤمنون طلباً للكرامات وطمعاً في الغفران. هناك كانت تمتزج العبادة بالتجارة وبالترفيه. كان أهل المنطقة المحليون يتنافسون على الفوز بدفن موتاهم بالقرب من الأضرحة، وخاصة ضريح آفاق، ثم يعودون ليصلوا ويدعوا بجوار قبور ذويهم. أما اليوم، فسمعة آفاق خليط من أمور. فبينما يراه بعض الإيغوريين ولياً من أولياء الله الصالحين، يتذكره آخرون كرجل خائن. وذلك أنه زار التبت قريباً من العام 1679 وأقنع الدلاي لاما بمساندة الغزو المونغولي لمنطقة الإيغور. ثم بعد مرور أقل من قرن على ذلك، تعرض أولئك المونغوليون أنفسهم للغزو من قبل إمبراطورية القينغ، ووضع الإمبراطور الذي يحكم من بكين عينه على وطن الإيغور.
 
وما لبث إمبراطور القينغ أن عزز أطماعه الجديدة في منطقة الإيغور من خلال الغزو العسكري، فاستولى على مدينة كشغر الهامة في عام 1759. وفيما عدا بعض الحركات التمردية وبضعة من الدول المستقلة التي لم يطل عمرها، ما لبثت المنطقة تخضع لحكم الصين منذ ذلك الوقت. يوجه كثير من الإيغور اللوم للآفاق خوجه لأنه هو الذي بدأ هذه السلسلة من الحكم الأجنبي وينظرون إليه بشيء من التقزز. في السنوات الأولى من الألفية الحالية، قال مرشد سياحي كان في بعض الأوقات يعمل في ضريح آفاق متحدثاً لباحث يقوم بجولة في المكان: "إنني أطلب الغفران من الله في كل مرة أذهب فيها إلى هناك." وهكذا تخلد الجغرافيا ذكرى الأوغاد كما تخلد ذكرى الأبطال.

 

اقرأ أيضا: الصين: دول الخليج تدعم "موقفنا المشروع" تجاه الإيغور

كما أن المشاهد والصروح تؤسس للأحياء ارتباطات مقدسة مع الأرض أيضاً. في رواية إيخيت توردي التي صدرت في عام 1999 بعنوان "سيرسان روح" (روح الصعلوك)، ينتحب زائر اسمه أكبر فرحاً وهو ينزل من طائرة هبطت فوق مدرج يغطيه الغبار في بلدته الأصلية كشغر. يميل المسافر بهامه إلى الأرض ليأخذ حفنة من رمل ويضعها في جيبه، ثم "يبدأ السير، ويشعر بأن جسده يتثاقل، يُجر إلى الأرض ويتسمر في المكان."
 
إعادة الارتباط بالأرض تمنح بطل الرواية شعوراً بالاستسلام والفرج. تحكي رواية "روح الصعلوك" حكاية أكبر ووالده آتيخان، وقد انطلقا في رحلة للحج إلى مكة في عام 1948 – في السنة التي سبقت استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على منطقة الإيغور. بعد وصولهما إلى مكة يكتشفان أن حكام "الصين الجديدة"، والتي غدا موطنهم جزءاً منها الآن، قد أغلقوا كل الطرق إلى الوطن. يموت الأب في مصر بعد عقود من الحنين والتطلع إلى العودة بينما يعود أكبر في الثمانينيات عندما بدأت الصين في الانفتاح من جديد.
 
من المفارقات ذات العلاقة بقرابات الإيغور الواسعة عبر الحدود – ليس فقط مع بقية آسيا الوسطى، ولكن أيضاً مع الهند وبلاد فارس وبلاد العرب وتركيا – أن الصين، وطوال معظم السبعين عاماً الماضية، ندر أن تسمح للمواطنين العاديين من الإيغور بمغادرة وطنهم المقهور والمغلوب على أمره. راجت رواية "روح الصعلوك" في أوساط شعب الإيغور لأنها تتحدث عن التعطش لتجربة تجري في أراض بعيدة ولكنها أرض لشعب شقيق. حين يتابع القارئ أبطال الرواية عبر بلدان الجوار فإنه يتعلم عما كان يجري للحجيج حين يسلكون طريقهم التقليدي إلى مكة وعما كانوا يتحملونه من مشاق طوال تلك الرحلة إلى أن ينجزوا مهمتهم المقدسة.  
 
في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، شهدت الصين بعض الإصلاحات الليبرالية التي انطلقت بعد وفاة ماوتسي تونغ في عام 1976، ومنها على سبيل المثال توسيع هوامش حرية التعبير وإطلاق عصر ذهبي سواء في ما يتعلق بآداب الإيغور الحديثة أو الحريات الشخصية لشعب الإيغور. كانت تلك الفترة القصيرة من الانفتاح السياسي هي التي أعادت أكبر إلى وطنه وهي التي سمحت لرواية "روح الصعلوك" بأن تصبح ممكنة. غدا إيخيت توردي، الذي كان نجل رجل مهني من مدينة كشغر، روائياً ترعاه الدولة في عام 1989، وكان حينها يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً. كان قبل ذلك قد عمل لسنوات محرراً في إحدى المجلات، وتمكن من السفر حول العالم في السنوات التي أعقبت وفاة ماوتسي تونغ وما شهدته تلك الفترة من تساهل وانفتاح، لإجراء مقابلات مع المنفيين الإيغور كجزء من البحث المطلوب لروايته. ثم نشر قصته عن العلاقة ما بين الثقافات عبر دار نشر مملوكة للدولة، تسمى مطبعة الإيغور في كشغر. أما اليوم، فمجرد إبداء الاهتمام بما تتحدث عنه رواية "روح الصعلوك" من وقائع في البلدان الأخرى يكفي لأن ينتهي المطاف بمن يفعل ذلك من الإيغوريين في معسكرات التلقين الصينية.
 
تتحدث رواية "روح الصعلوك" في نهاية المطاف عن حب الوطن. ورغم أنها قصة مغامرة تجري في أماكن بعيدة ومقدسة إلا أن خلاصتها بالنسبة لأبطالها وقرائها على حد سواء ترد في الصفحات الأولى منها، وتتمثل في ما جرى ذات صيف حارق في كشغر:


"كان منزله يقع في شارع جنان، وكانت ساحته الداخلية المنمقة والواسعة تدخل السرور إلى قلب كل من يلج إليها. تمتد الأغصان المتبرعمة لشجرة الطلح الغناء لتعانق سقف الرواق الواسع وحوافه الخشبية الجميلة متقنة الصنع. وعلى جانبي شجرة الطلح شتلتان، إحداهما تين والأخرى رمان. تظهر حبات التين هنا وهناك، تتألق كالبراعم الصفراء، بينما أينعت ثمار الرمان بلونها الأحمر القاني، تلمع بأشكالها المتفردة. بعد عودته إلى المنزل، احتسى أتيخان زبدية من الشاي البارد وتوجه إلى غرفة الاستقبال في الطابق العلوي. كان المنزل من داخله هادئاً بارداً ومظلماً، أرخى جوه المطمئن عليه ستاراً من السكون فراح يحلم في يقظته إلى أن عاجله النوم."
 
تقدم الرواية لقرائها ألم الحنين إلى مكان معظمهم لم يبرحوه، وقد لا يتاح لهم بتاتاً أن يبرحوه.
 
في خريف عام 2005، قرر إيميت، وهو مزارع في تاشميليق التي تقع في الجنوب من جينيانغ، استضافة أول مشرب لقريته ذلك الموسم داخل ساحة منزله، التي تتوسط البيت، تماماً كتلك التي جاء وصفها في رواية "روح الصعلوك". كان المشرب – وهو تجمع لأهل القرية تقام فيه مجموعة من الأنشطة الترفيهية – وسيلة جيدة للاحتفال بمولد ابنته الجديدة، وكذلك أيضاً فرصة لاستعراض أحدث ما اقتناه من مصنوعات خشبية وسجادات جميلة انتهت شقيقته آيشيم مؤخراً من نسجها.
 
قبل التحولات التي طرأت خلال السنوات الخمس الماضية كان المشرب مرتبطاً بالدورة الزراعية، والتي تحدد وتيرة حياة المزارعين الصغار الذين تتشكل منهم الأغلبية العظمى من السكان الإيغور. بعد الحصاد في آخر الصيف يقوم الناس بحفظ الأطعمة وادخارها لفصل الشتاء، ويبيعون الفائض عن حاجتهم منها في الأسواق الأسبوعية. ثم يأتي الخريف ليسدل الستار على مرحلة من العمل الزراعي المكثف، ويتطلع الناس إلى المشارب التي تساعدهم على عبور شتاء طويل وجاف.
 
طاف إيميت أرجاء القرية بحثاً عن الحكواتيين والموسيقيين والكوميديين الشهيرين حتى يشاركوا في فعاليات المهرجان. طوال شهور الشتاء الباردة، في "زمن المشرب"، يبحث الناس عن الأماكن التي سيشارك فيها أشهر الفنانين وذلك أنهم يتحملون نفقات الحفل عبر ما يدفعونه من مكافآت. يمضي بعض هؤلاء الفنانين شهور الصيف في رحلات روحية، يتنقلون بين الأماكن المقدسة حيث يلتقون بغيرهم من الفنانين ويتعلمون حكايات أو أغاني جديدة. ولكنهم يحرصون على العودة إلى قريتهم قبل الشتاء حتى لا يفوتهم موسم المشرب.
 
في قرية تاشميليق حيث يقطن إيميت، يبدأ المشرب في العادة برعاية من أحد أعيان القرية. يرقص الضيوف على ألحان تنبعث من فرقة تتكون من أعواد ذات وترين، البانجو الشبيه بالربابة، والطبول وغير ذلك من الآلات الموسيقية. تتشكل محكمة صورية بعض قضاتها من الكوميديين، تصدر أحكاماً على الضيوف بأن يستعرضوا مواهبهم أو أن يشاركوا في ألعاب هزلية. يتبادل صغار العشاق النظرات بينما ينهمك الحكواتيون في رواية حكايات من التراث حول الحرب والعشق. وقد ينظم مزاد علني لصالح إحدى العائلات المحلية التي ألمت بها ملمة أو تعاني من ظروف صعبة. حين يستمر الضحك والغناء إلى ساعة متأخرة من الليل يعلم المضيف أن مشربه حالفه النجاح.
 
أبدت الدولة الصينية اهتماماً في المشرب، والذي غدا الآن جزءاً أساسياً من صناعتها الثقافية في منطقة الإيغور. وفي عام 2010 حازت الحكومة الصينية على اعتراف من اليونسكو بالمشرب باعتباره واحداً من قائمة معالم التراث الثقافي غير المادي التي تحتاج إلى حماية ملحة. وتدعم الدولة الصينية العروض الباذخة التي تقدم في عاصمة الإقليم أورومقي وفي الأماكن التي يغشاها السواح مثل كشغر، وتقوم بتدريب الموسيقيين في معهد فنون جينيانغ على أداء العروض في نسخ رسمية مكتوبة من المشرب.

 

اقرأ أيضازوجة ناشط إيغوري معتقل في المغرب تحذر من ترحيله (شاهد)

تتطفل هذه العروض على المشرب لتخرجه من سياقه المجتمعي لصالح المسارح الكبيرة. يتشكل الجمهور من غرباء دورهم المشاهدة بدلاً من المشاركة. وكل ما يعتبر ذا طبيعة دينية سواء كان مساعدة مجتمعية أو تفاعلاً اجتماعياً أو كلمات تغنى فإنه يستبعد تماماً. تحول "زمن المشرب" تحت ضوء القمر إلى زمن العروض المنوعة تحت أضواء المسارح.  
 
واليوم غدا المشرب أمراً مستحيلاً في ضوء تقييد عدد من يسمح لهم بالتجمع من الإيغور حتى داخل الممتلكات الخاصة. هذا الفقد الذي مني به الإيغور لما كانوا متعودين عليه من فنون وحياة وثقافة في القلب من مجتمعاتهم المحلية عبرت عنه شعراً الخبيرة الإيغورية المتخصصة بتوصيف الأجناس البشرية راحيل داود، حيث تقول:


أختار يوم المشرب بديلاً عن عرشك الملكي
أختار أغاني وأنغامي بديلاً عن رفاهيتك وترفك
 
بينما تشن الدولة الصينية حرباً غير مسبوقة على الإيغور، كثيراً ما يصف المسؤولون سياسات التذويب التي يعكفون عليها بأنها منحة الحداثة، حيث تُهدم القرى وتستبدل بها تجمعات متشابهة من المباني الخرسانية، ويجبر المزارعون على العمل في المصانع، ومن يعارضون يجدون أنفسهم داخل معتقلات جماعية توصف بأنها مراكز تدريب مهنية لإعداد الإيغور للعيش في حياة أكثر تحضراً.
 
جزء ضئيل من هذه الحداثة الصينية الإجبارية قد يكون جذاباً بالنسبة للإيغور ولكن الجزء الأكبر منها لا يغريهم. فالطرق الأفضل وسهولة الحصول على السيارات والأجهزة الإلكترونية على مدى العشرين عاماً الأخيرة لم تفض إلى كثير من الشكاوى. ولكن ثمن ذلك كان تدمير أهم المواقع التاريخية للإيغور، ووضع الأطفال في مدارس داخلية صممت لمنع التوارث الثقافي، وتجريم كل جانب من جوانب الحياة الإيغورية، وحتى إجبار الناس على إعادة ترتيب الأوضاع داخل بيوتهم بما يتناسب مع الأذواق الصينية.
 
لو أردنا أن نسترشد بما في التاريخ من تجارب، فلا شك أن نجاح حملة التذويب سوف يكون متفاوتاً، وفيما لو سمح للإيغور في أي وقت في المستقبل اختيار أعمالهم ومعتقداتهم وعاداتهم تارة أخرى، فسوف تبرز الخواص المميزة للإيغور. قد يكون اعتراها بعض التغيير ولكنها لن تكون منقطعة عن الماضي، ولعل في ذلك ما يواسي ويعوض ما تم تدميره حتى الآن.

 

للاطلاع على التقارير السابقة في السلسلة: (التقرير الأول) (التقرير الثاني) (التقرير الرابع)


- ريان ثوم محاضر في تاريخ شرق آسيا في جامعة مانشتسر ومؤلف كتاب "الطرق المقدسة لتاريخ الإيغور".
- موسابير هو الاسم المستعار لأكاديمي من الإيغور.

 
التعليقات (1)
إبراهيم عمار الرحماني
الثلاثاء، 22-02-2022 06:53 ص
بإمكان العالم الإسلامي أن يحمي إخواننا الويغور من القمع والبطش الذين يتعرضان لهما من قبل النظام الصيني الشيوعي البوذي لو إستعمل سلاح المصالح الإقتصادية في هذا الصراع . ولكن دولا " مسلمة " مثل مهلكة آل سعود وإمارات السفهاء وغيرهما تتعاون مع الصين ضد المسلمين الويغور ، رغم أن الإسلام يقول : [ وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر ] . وإذا نظرنا إلى الغرب فإن مواقفه من الجالية المسلمة المضطهدة لا تكاد تتجاوز صراع الهيمنة والنفوذ والدعاية الإيديولوجية ( حقوق الإنسان والأقليات ) إلخ . . .