هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
المتأمل في أوضاع بلادنا الجريحة، ستعلق بذهنه مجموعة من الظواهر، بعضها جديد وبعضها يأتي استرجاعا لأخريات قديمة.
ومن الظواهر المعروفة حد البداهة، أن كرسي السلطة يتسبب في إصابة معظم من يجلسون عليه بضعف الذاكرة أو عمى البصيرة. فبالأمس القريب جدا، كان نظام «الإنقاذ» يفترض أن الاعتقال والتعذيب الممنهج لمعارضيه وتلفيق الاتهامات لبعضهم تمهيدا لتقديمهم لمحاكمات لا علاقة لها بالعدالة، كان يفترض أن ذلك سيقيه ضربات هؤلاء المعارضين وسيطيل من عمر جلوسه على كرسي السلطة، ولكنه تهاوى وسقط بفعل إرادة التغيير المعبر عنها سلميا بسلاح هتافات الحناجر.
ضعف الذاكرة تمكن من أهل «الإنقاذ» وهم جالسون على كرسي السلطة، فعميت بصيرتهم عن إدراك الحقيقة التي سطعت بها التجربة البشرية، التاريخية والراهنة المعاصرة، والقائلة بأن التعذيب والاعتقال لن يحمي من السقوط ولن يهزم إرادة الشعوب متى ما قررت التغيير.
واليوم، يبدو أن كرسي السلطة يمارس سحره في سلب ذاكرة من يجلسون عليه، فتتعامى بصيرتهم عن هذا الذي حدث بالأمس القريب، ويسيرون في ذات المنهج المعوج ولا أدري إن هم على وعي بأن هذا المنهج سيقود، وفي الغد القريب، إلى السقوط من الكرسي. تداعت هذه الخاطرة في ذهني وأنا أتتبع رجوع ظاهرة «زوار الفجر» مرة أخرى لينفذوا حملات الاعتقال التي طالت المئات من شباب ثورة كانون الأول/ديسمبر، والسبب أنهم ينظمون المواكب والمظاهرات رفضا لإجراءات الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الانقلابية.
الاعتقال الاستباقي هدفه الحد من المواكب وإضعافها، ولكنه لم يفلح ولن! ومجابهة المواكب بالعنف الدموي حد سقوط الشهداء، لن يكسر شوكة هولاء الشباب. أما كون إرادة الشعوب لا غالب لها، فهذا قانون موضوعي، بمعنى سيؤدي فعله شاء الجالس على كرسي السلطان أم لم يشأ، متقدة ذاكرته أم فاقدها!
وعلى ذكر كرسي السلطان، نسترجع مكتوبا لنا قبل عدة سنوات قلنا فيه: إذا تساءلنا لماذا يسعى الناس، أحزابا وأفرادا، إلى كرسي الحكم والسلطان، قد نسمع أو نقرأ عشرات الإجابات، ولكننا، في الغالب، سنهتم بأربع إجابات نرى فيها الأساس والجوهر: الإجابة الأولى؛ إنهم ينشدون السلطة سعيا لتنفيذ رؤى وتصورات معينة، أو برامج تستند على أيديولوجية، يؤمن بها طالب الحكم والسلطة، ويراها الوجهة المشروعة والصحيحة دون سواها من البرامج والتصورات والرؤى، للتغيير والتطوير.
أو إنهم يسعون للسلطة بافتراض أنهم الأجدر والأكثر كفاءة من الآخرين لتحقيق أحلام الشعب في الإصلاح وتأسيس العدل وتنمية البلاد، وهذه هي الإجابة الثانية. والإجابة الثالثة، معنية باستخدام قوة كرسي الحكم والسلطان لحماية المصلحة الخاصة، ولو على حساب مصلحة الوطن.
أما الإجابة الرابعة، فتتمحور حول البحث عن المجد الشخصي وزراعة وتربية الأوهام، ثم محاولة تجسيدها.
ومن الواضح أن الإجابتين الثالثة والرابعة، هما من النوع الذي لا يتم الاعتراف به، بل يتم نكرانه بشدة، لذلك هي إجابات لا تنطق بها شفاه المتحدث وإنما تُترك لضميره وتقدير السامع. وغالبية الذين يسعون للحكم، أو يحكمون فعلا، يبشرون علنا بطرح يجمع ما بين الإجابة الأولى والإجابة الثانية.
ولكن الممارسة الفعلية والتجربة العملية هي وحدها المحك الذي سيحدد ما إذا كان طرحهم هذا حقيقيا أم مجرد ادعاء كاذب، يخفي أن الأقرب للصواب والحقيقة عند هؤلاء ربما كانت الإجابة الثالثة أو الرابعة.
ومن زاوية أخرى، ولكنها ذات علاقة وثيقة بسؤال وإجابات السعي إلى كرسي الحكم، فإن من أهم سمات الإنسان العاقل والسوي واليقظ الضمير، الوقوف مع الذات ومراجعة النفس في كل أدائه وتصرفاته ومعالجاته في الفترة التي مضت من مسار حياته، تصحيحا وتطويرا لمسار الفترة المقبلة.
وأعتقد أن الكثيرين يفعلون ذلك يوميا، فهم لا ينامون ليلا حتى تراجع ذاتهم ما دار في نهارهم، ويستوي في ذلك الطالب والموظف ورب الأسرة…إلخ. لكن وقفة الذات عند من يتعامل مع الشأن العام، كالسياسيين والزعماء وقادة الرأي، خاصة المسؤول عن الرعية الذي يدير شؤون البلاد وناسها، تختلف تماما عن غيرها؛ لأنها تتعلق بمصائر البشر والأوطان.
ولهذا السبب هي تكتسب معنى ومحتوى شديد الحساسية وشديد الخطورة، خاصة عندما يتعامل هؤلاء الساسة والزعماء مع المنعطفات والمنعرجات الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدانهم وأقوامهم. أعتقد أن أي سياسي أو زعيم أو أحد قادة الرأي، بدءا من رئيس الدولة ومرورا بالسياسي المعارض، وانتهاء بكل من يدلو بدلوه في الشأن العام، من الصعب تخيل تمتعه بسمات الإنسان العاقل السوي اليقظ الضمير، إذا لم يقف مع ذاته ويراجع أداءه ومساهماته ودوره إزاء الأحداث الأهم والأخطر في تاريخ السودان الحديث، حتى ولو حققت هذه الأحدث مرادا وأهدافا مسبقة سعى لها، أو جاءت استجابة لأيديولوجية يؤمن بها.
ولعل في قمة هذه الأحداث الجسام انشطار الوطن إلى دولتين، واستدامة الحرب الأهلية حد توطين الموت الجماعي في ربوعه، والكارثة التي تعصف بالبلاد اليوم حد التهديد بسقوطها. وحتى اللحظة، ربما لا نستطيع أن نجزم بأننا على دراية بحال أي من هولاء الساسة والزعماء وقادة الرأي، وكيف سيعبر كل منهم عن وقفته الخاصة مع الذات، ولكن، وبما أنني لست في موقع المفتش عن ضمائر الآخرين، بل وأرفض ذلك مثلما أرفض أن يفتش أحدهم ضميري، فإنني لا أستطيع القول إن كان قادة البلاد، حكاما وساسة معارضين، ينامون كل ليلة وضمائرهم مرتاحة، تجاه دورهم في ما يحدث اليوم في البلاد، وتجاه نتائجه على الوطن والمواطن!
صحيح أن من كانوا، وظلوا، في كراسي الحكم هم الذين يتحملون الجرم الأكبر من مسؤولية الفشل واحتمالات انهيار الدولة السودانية. ولكن، من هم خارج مواقع الحكم، المعارضة، لا بد أن يعترفوا بأنهم أيضا يتحملون جزءا من مسؤولية هذا الفشل، فهل نستطيع أن نتدارك ذلك؟!
نقلا عن (القدس العربي)