هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مَن يتذكّر سكوت ريتر، المفتش الأشهر عن أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ والفاضح الأكبر لأكاذيب الإدارة الأمريكية حول الملفّ، وكيف صارت مهاداً لاجتياح العراق وصناعة «عاصفة الصحراء» وعواقبها الكارثية؛ والمُراجِع الأبرز للذات أوّلاً، ثمّ لسنوات وسنوات من صناعة الأباطيل والأضاليل بصدد العراق وإيران فالشرق الأوسط طولاً وعرضاً، مقابل السكوت عن كلّ هذه الملفات حين تتصل بدولة الاحتلال الإسرائيلي؟ أو، في صياغات أخرى لفحوى الأسئلة إياها: لماذا يصحّ استذكار ريتر في هذه الأيام بالذات: مفاوضات فيينا المتعثرة، حول البرنامج النووي الإيراني؛ والاستعصاءات المتعاقبة بصدد استحقاقات دستورية، مركزية وهيكلية، في العراق؛ والتسخين على جبهة أوكرانيا بين أمريكا والحلف الأطلسي من جهة، وروسيا (بانخراط غير تامّ، حتى الساعة، مع الصين) من جهة ثانية؟
سبب أوّل يسوّغ هذه العودة إلى ريتر، هو سلسلة شهادات بليغة بقدر ما هي إشكالية، حول هذه الملفات وسواها؛ دوّنها الرجل في مناسبات عديدة، لعلّ أشدّها وضوحاً من حيث التوثيق تلك الفصول الشاهدة في عدد من مؤلفاته ذات الصلة: «نهاية اللعبة: حلّ مشكلة العراق ـ مرّة وإلى الأبد» 1999؛ «سرّي عراق: القصّة المكتومة عن مؤامرة الاستخبارات الأمريكية» 2005؛ و«هدف إيران: الحقيقة عن خطط الحكومة الأمريكية لتغيير النظام» 2006؛ وكذلك الكتاب الأحدث والأوسع نطاقاً «الملك العقرب: اعتناق أمريكا الانتحاري للأسلحة النووية من روزفلت إلى ترامب» 2020. سبب ثانٍ هو أنّ ريتر اتخذ، بعد إنهاء مهامه في تفتيش العراق واضمحلال الشخصية التي قُدّم بها في الإعلام الأمريكي وتمزج بين رامبو المارينز وشرلوك هولمز التحقيق، مال عموماً إلى معارضة غالبية سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط. وبالطبع، لم تتجرّد معارضاته من نزوع التغريد خارج السرب على مبدأ خالفْ تُعرف، وكذلك محاولة الاقتداء بنجوم التحقيق الصحافي (سيمور هيرش في المثال الأبرز، والموقف من الهجمات الكيميائية التي استهدفت الغوطة وخان شيخون في سوريا).
حزمة ثالثة من الأسباب هي أنّ ما يقوله ريتر اليوم عن أجواء الحرب المتصاعدة على الجبهة الأوكرانية تحمل الكثير من المغزى، وتقترح العديد من التأويلات، حول طبائع التسخين من جانب الإدارة الأمريكية تحديداً؛ وما إذا كان النسق العام يعيد إنتاج مناخات مماثلة لجأ إلى تصنيعها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب سنة 1990، والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن سنة 2003، قبيل غزو العراق في الحالتين. المرء هنا، في أخذ مقترحات ريتر على محمل التصديق أو التشكيك، يتوجب أن يتجاوز شخصية المفتش الرامبوي/ الهولمزوي، إلى الموظف (رفيع المسؤوليات أحياناً) الذي عمل ضابطاً في المارينز خلال 7 سنوات، ومفتشاً في الاتحاد السوفييتي خلال تطبيق معاهدة القوات النووية متوسطة المدى INFK سنوات 1991-1998، وعضواً في أركان الجنرال نورمان شوارزكوف أثناء حرب الخليج. وبهذا المعنى يجوز فيه اعتماد النصح العتيق الصائب: إسألْ مَن كان بها خبيراً، في تفاصيل عديدة ليس أقلها أهمية حكاية تلفيق المخاطر وتصنيع الأوهام وتضخيم المخاوف في التهيئة للحرب.
وهكذا، بادر جون راشيل، مدير «مشروع عوائد السلام» الأمريكي، إلى إجراء حوار مسهب مع ريتر، مؤخراً، وطرح عليه عدداً من الأسئلة التي تغطي الراهن في العلاقات الدولية وموقع الولايات المتحدة وأمراض الديمقراطية الأمريكية؛ ولكنها الأسئلة التي تذهب أبعد من هذه المحاور إلى العديد من الجوانب الجوهرية التي طبعت، وما تزال، النظام السياسي العالمي الراهن والموروث معاً، ومعادلات القوى العظمى على أصعدة شاملة. الهاجس الأول كان «ساعة القيامة» النووية، وهل يتوجب أن تدقّ قبل 100 ثانية كما يقول العلماء؛ حيث أجاب ريتر بأنّ العقيدة العسكرية الأمريكية لا تفترض خيار استخدام الأسلحة النووية بقدر ما تعتبره فعلاً منفصلاً أعلى، أو أبعد، من المهمة العسكرية الموضوعة قيد التنفيذ؛ وهذا لا يعني أنّ خطر نزاع نووي ليس فعلياً، أو أنّ على العالم ألا يقلق.
بذلك فإنّ الحديث عن ضبط «ساعة القيامة» ليس مهماً، لأنه إذا اتُخذ قرار استخدام الأسلحة النووية فهذا يعني أننا فشلنا، وأننا في الساعة صفر، وبالتالي لن تكون المهلة أكثر من ثانية واحدة قبيل اندثار البشرية. والأرجح أنّ نبرة التهويل الدرامي في تشخيص ريتر لا تنطلق من فراغ، قياساً على ذهنية الرجل ومحاكمته لموازين القوى العظمى وعتادها النووي تحديداً؛ لأنه في إجابة تالية حول علاقات الشدّ والجذب بين أمريكا وروسيا والصين، مثلاً، يرى أنّ الثلاثة انخرطوا مراراً في تنويعات على «اللعبة الكبرى» ذاتها، التي تعتمد الجبروت العسكري وسيلة لاكتساب السيطرة على، وتأمين، الأهداف التي تدخل تحت تصنيف المصالح القومية العليا.
ويسأل راشيل عن عنصر الإفساد الذي طرأ على فترة علاقات الوفاق بين واشنطن وموسكو في أعقاب بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف، فيساجل ريتر بأنّ الولايات المتحدة لم تساند غورباتشوف عملياً، بل قد تكون أسهمت في تقويض مشروعه، لأنه أرادت أن تتحوّل السلطة هناك على غرار بوريس يلتسين الضعيف، أو دمتري مدفيديف (الذي كان المفضّل عند الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، مثلاً). فكان أن جوبهت بطموحات فلاديمير بوتين إلى روسيا قوّة عظمى متجددة، وإمبراطورية محاصِصة صانعة للقطبية، وهيمنة تمزج بين مافيا المال والأعمال والغاز والنفط وبين ضمّ جزيرة القرم وغزو سوريا ونشر ميليشيات «فاغنر» حيثما اقتضت شروط «اللعبة الكبرى» ذاتها. وخلاصة القول، في أعمال الشدّ والجذب، هي التالية حسب ريتر: «الجشع يحبّ الفراغ، والبشر باتوا جشعين أكثر فأكثر، وهذا أحد وجوه القول إنك إذا لم تنشر قوّة كافية للدفاع عن نفسك، فإنّ سواك سوف يستفيد من هذه الفرصة»؛ ولا جديد، بالطبع، في ما يستذكره من أنّ أمريكا وروسيا والصين، بعد فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان، استخدمت الجبروت العسكري لحيازة مكاسب جيو ـ سياسية على حساب الآخرين.
والحال أنّ الوقفة الراهنة عند استنتاجات ريتر تبيح استذكار نظائرها لدى الرجل نفسه، ساعة استقال من المهامّ الرامبوية/ الهولمزوية، وأعلن جملة أباطيل كانت من تصنيع إدارات أمريكية متعاقبة بعد قبل «عاصفة الصحراء» وبعدها، في التمهيد لغزو البلد: 1) لا توجد رابطة بين صدام حسين و«القاعدة»؛ 2) إمكانيات العراق الكيميائية والبيولوجية والنووية دُمّرت في السنوات التي أعقبت حرب الخليج؛ 3) المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية كانت، وتبقى، قادرة على كشف أيّ مراكز جديدة لإنتاج الأسلحة في العراق؛ 4) الحصار منع العراق من الحصول على المواد المكوّنة لصنع الأسلحة؛ 5) فرض مبدأ «تغيير النظام» بالقوّة لن يجلب الديمقراطية للعراق؛ و6) عواقب حرب أمريكا على العراق خطيرة للغاية على الشرق الأوسط بأسره.
وفي كلّ حال، وكما اتضح لاحقاً بأقصى جلاء، كانت إدارة بوش الابن عازمة على غزو العراق، عاد المفتشون أم لم يعودوا، وجرى تجريد البلد من السلاح أم لا. كان سيد البيت الأبيض في حاجة إلى تلك المغامرة العسكرية لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه بعد مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه للفوز بولاية ثانية. فما الذي اتضح من خطأ في تقديرات ريتر تلك؟ وأياً كانت مغامرات بوتين وسياساته الإمبراطورية وعربدته الراهنة في سوريا والقرم وليبيا ومالي ومدغشقر وفنزويلا والموزامبيق، أو المقبلة في تخوم أوكرانيا… كم من سكوت ريتر تحتاج الإنسانية في سبيل افتضاح الأباطيل الأمريكية؟
(القدس العربي)