قضايا وآراء

مائة عام من الهراء (4)

ماهر البنا
1300x600
1300x600
ختمتُ الجزء السابق، من سلسلة المقالات هذه، بهذه الجملة: "كثيرون إذا صنعوا ذلك الشرق الأوسط الحديث، وما هذه السلسلة إلا لتنشيط الذاكرة، والتذكير بـ"الجريمة" التي نرتكبها بالتقاعس عن الدرس والتنقيب، والبحث عن الفاعلين الحقيقيين لوضعنا الكارثي والمزري". وقد بدأته بهذا التأكيد: "ليست مصادفة، أبدا؛ وإن بدت كذلك للوهلة الأولى، أن يتزامن إعلان رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، عن استقالته مع أمرين: إعدادي لهذا الجزء المخصص لعلاقة زعيم "الأربعون حرامي" ونستون تشرشل بالسودان، واطلاعي على إعلان عن كتاب جديد؛ ذلك أن ما أحاول الكشف عنه، وإثباته (في هذه السلسلة) هو تأثير ما جرى في مؤتمر القاهرة 1921 على الحاضر، واتصاله به".

اليوم أسير على نفس المنوال، فمشهد افتتاح الدورة الخامسة لمجلس النواب "الاتحادي" العراقي، تصادف مع إعدادي لهذا الجزء، ومثل سابقه، يبدو أن الوقائع تعزز ثقتي بأني لست منشغلا بالتاريخ، إلا بقدر استمرار مفاعيله في الواقع. واليوم أيضا، سأذهب للنظر إلى صانعين من "صناع الشرق الأوسط الحديث"، الأول هو توماس إدوارد لورنس (1888- 1935)، الذي سوقته آلة الدعاية الاستعمارية وتقبلته غفلتنا على أنه "لورانس العرب"، والثاني أقل شهرة ودعائية، على الرغم من دوره الكبير، لكنه أيضا قد حاز جاذبية ما، فهو إذا حمل اسم: وليام هنري ارفيان شكسبير (1878- 1915)، وإذ كان عسكريا وصل إلى رتبة النقيب، فقد عُرف باسم كابتن شكسبير، أو شكسبير الكويت، أو شكسبير آل سعود!
مشهد افتتاح الدورة الخامسة لمجلس النواب "الاتحادي" العراقي، تصادف مع إعدادي لهذا الجزء، ومثل سابقه، يبدو أن الوقائع تعزز ثقتي بأني لست منشغلا بالتاريخ، إلا بقدر استمرار مفاعيله في الواقع

* * *
كان لورانس "نجما" بين "الأربعين حرامي" المجتمعين (المتآمرين) على ضفاف النيل (1921)، يتجهز للقطاف الأخير لرؤيته: تنصيب أولاد الشريف حسين ملوكا على بقاع من إرث الدولة العثمانية المنهارة، بينما كان قطاف شكسبير يحتاج لسنوات أربع أخرى، أي بعد نحو عقد كامل من مقتله وهو "يقاتل" لتحقيق رؤيته.

مثّل الاثنان مركزين استعماريين تعاملا مع البقعة الجغرافية المحصورة بين جنوب الأناضول والبحرين الأبيض والأحمر، والخليج وبحر العرب، أي ما يمكن أن نسميه المشرق العربي. فكان لورانس ممثلا لمكتب الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة، وشكسبير مثل الخبرة البريطانية الطويلة في الهند للتعامل مع المسلمين، راهن لورانس على الشريف حسين وأولاده، وراهن شكسبير على عبد العزيز آل سعود، ولم يك التنافس بين الرهانين (الرؤيتين) مخفيا، بل كان ظاهرا، ولكن السيطرة عليه من المركز في لندن كان حاسما، وهذه سمة النظم المستقرة العريقة، بغض النظر عن طبيعة مسعاها.

* * *

يكبر شكسبير لورنس بنحو عقد من الزمان، لكنهما دخلا إلى "الشرق الأوسط" في نفس التوقيت تقريبا، وكان لكل منهما تأهيل مختلف، أهلهما للمساهمة في خطط بدت لسنوات "متعارضة"، لكنها بمرور السنوات ظهرت كم هي متكاملة، لأنها أفضت إلى وقائع ما زالت فاعلة حتى اللحظة.

نعرف من كتاب "المخفي من حياة لورنس العرب"، لفيليب نايتلي وكولن سمبسون، الصادر في نيويورك عام 1969، والصادرة ترجمته العربية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1971، أن لورنس كان يعد أطروحة بعنوان "الصليبيون والشرق الأوسط ومبادئ الهندسة الحربية"، أثناء دراسته في جامعة أكسفورد، وأنه تلقى دروسا في اللغة العربية من الآب ن. عودة؛ وهو رجل دين مسيحي سوري كان يقيم في أكسفورد، ومن أصدقاء المستشرق المعروف مارجوليوث.

أبحر لورنس إلى الشرق الأوسط لأول مرة في حزيران/ يونيو 1909، فوصل إلى بيروت، ومنها سيرا على قدميه إلى صيدا، وقفل عائدا إلى بانياس فصفد فبحيرة الحولة فطبريا فالناصرة فحيفا، وعاد إلى صيدا عن طريق عكا وصور، ثم توجه شمالا إلى طرابلس واللاذقية وحلب وأورفة وحران ومنها أقفل عائدا إلى دمشق. وقد كتب عن تلك الرحلة: "كانت رحلة ممتعة جدا.. سيرا على القدمين ووحيدا كل الوقت، بحيث تسنى لي أن أتعرف على حياة عامة الشعب بشكل أفضل مما يتسنى للمسافر بصحبة القوافل والتراجمة".

وبين صيفي 1911 و1912 جاب لورنس الشرق الأوسط، ثم ذهب في مهمة تجسسية إلى صحراء سيناء في سنة 1913. وهكذا حين اندلعت الحرب العالمية الأولى (28 تموز/ يوليو 1914) كان لورانس مهيأ تماما للعمل ضمن مكتب الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة، لرفد الجهود الحربية البريطانية في مواجهة الدولة العثمانية في تلك الرقعة التي خبر الكثير من مناطقها جيدا.

أما شكسبير فقد دخل إلى "مسرح العمليات" من منفذ على الخليج العربي، فوصل الكويت في نفس توقيت وصول "قرينه" إلى بيروت، لكنه كان مؤهلا تأهيلا مختلفا، حمله إليه أنه ولد في الهند (بومباي)، وتخرج في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية (1896)، وخدم في الجيش البريطاني في مناطق عدة في الهند، ثم دخل في عام 1904 إدارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية، وأمسى بمنصب مستشار ثان في الهند البريطانية، وبُعث للعمل مع بيرسي كوكس (أحد أبرز "الأربعون حرامي")، وهو المعتمد البريطاني في بوشهر (المحمرة، إيران) منذ العام 1904، ومنها كان يدير الشؤون البريطانية في إمارات الخليج العربية، فبعث به إلى الكويت كمعتمد بريطاني.
كان الرجلان يخدمان في مشروعين يبدوان متعارضين، إذ إن لورانس كان يعمل كي يكون حسين بن علي، الذي عينته الدولة العثمانية شريفا على مكة (1909)، رأس الحربة في الخطط الحربية ضد "دولته"، بينما كان شكسبير يعمل كي يؤمن آل سعود دعما ضد الدولة العثمانية أيضا

بينما هو في الكويت قام شكسبير، الذي كان يتحدث العربية بطلاقة وفصاحة، بسبع بعثات "استكشافية" منفصلة في أعماق الجزيرة العربية، في إحداها (آذار/ مارس 1914) انطلق من الكويت إلى الرياض، ثم - عابرا صحراء النفود - إلى العقبة، ومنها إلى سيناء، فقناة السويس، وصولا إلى القاهرة. وهكذا كان بدوره مؤهلا حين نشبت الحرب أن يخدم الإمبراطورية، بما في حوزته من معلومات وخرائط وصور وخبرة. وبالفعل تم تكليفه في تشرين الثاني/ نوفمبر 1914 من قبل حكومة الهند البريطانية؛ بتأمين التفاهم مع عبد العزيز آل سعود على الكيفية التي يمكنه بها دعم قوة المشاة البريطانية الهندية التي نزلت في البصرة لاحتلال العراق.

هكذا كان الرجلان يخدمان في مشروعين يبدوان متعارضين، إذ إن لورانس كان يعمل كي يكون حسين بن علي، الذي عينته الدولة العثمانية شريفا على مكة (1909)، رأس الحربة في الخطط الحربية ضد "دولته"، بينما كان شكسبير يعمل كي يؤمن آل سعود دعما ضد الدولة العثمانية أيضا. وفي الواقع فإن الاثنين (لورانس وشكسبير) كانا يعملان مع عدوين، لا تحتمل جزيرة العرب تواجدهما فيها معا.

* * *

والحاصل كان نجاحا باهرا لكل من لورانس وشكسبير، لكن الأخير سقط باكرا، إذ قتل بينما كان يشرف على توجيه المدفعية البريطانية التي تم دعم جيش عبد العزيز بها كي يواجه آل الرشيد المؤيدين للدولة العثمانية، في معركة جراب (كانون الثاني/ يناير 1915)، لكن كوكس أتم المهمة فيما بعد بنجاح باهر، ولورانس أوصل جهوده إلى ذروتها في القاهرة.

قبل دخول الدولة العثمانية الحرب بشكل مفاجئ (29 تشرين الأول/ أكتوبر)، بعد نشوبها بثلاثة أشهر، لم تك بريطانيا راغبة في إظهار نفسها كعدو مباشر، لكن فور إعلان الدولة العثمانية عن مشاركتها تسارعت الخطط الجاهزة نحو التنفيذ.

قبل الحرب كانت التوجهات القبلية ذات الطموحات المحدودة في تأسيس دول عربية صغيرة على أساس قبلي وعشائري تحظى باستجابة ودعم بريطانيين خفيين، لكن فور دخول الدولة العثمانية الحرب تسارعت الخطط للقضاء على أي نفوذ عثماني في الجزيرة العربية والعراق وسوريا واليمن. وقد عبر لورانس؛ في إحدى رسائله السرية، عن السياسة البريطانية التي كان يعمل في إطارها بهذه الكلمات الهامة للغاية: إن "نشاط الشريف حسين كان مفيدا لبريطانيا، لأنه يتماشى مع أهدافها المباشرة، والمتمثلة في تفتيت الجبهة الإسلامية وهزيمة وتمزيق الإمبراطورية العثمانية.. وإذا عولج العرب بطريقة مناسبة سيظلون في حالة من التشرذم السياسي؛ نسيجا من الإمارات الصغيرة المتنازعة وغير القابلة للتماسك".

"إذا عولج العرب".. يا لها من جملة كاشفة لقرن الهراء هذا.

* * *

لدى س. براد فاوث، الكثير من الوقائع يحق له معها أن يعنون كتابه "القاهرة 1921- عشرة أيام صنعت الشرق الأوسط"، فمؤتمر القاهرة (آذار/ مارس 1921) اتخذ ثلاثة قرارات بالغة الأهمية: إنشاء مملكة في العراق وتنصيب فيصل بن الحسين ملكا عليها، وإمارة في شرق الأردن، يكون شقيقه عبد الله أميرا لها، وتأكيد التزام الإمبراطورية بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين.
ثلاثة قرارات بالغة الأهمية: إنشاء مملكة في العراق وتنصيب فيصل بن الحسين ملكا عليها، وإمارة في شرق الأردن، يكون شقيقه عبد الله أميرا لها، وتأكيد التزام الإمبراطورية بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين

وبالفعل تم تنصيب فيصل ملكا على العراق في 23 آب/ أغسطس من نفس العام، وقبلها بأربعة أشهر أصبح شقيقه أميرا على شرق الأردن.

وانتظرت "جزيرة العرب" أربع سنوات حتى دخلت قوات عبد العزيز آل سعود مكة، ومنها، وفي 25 شباط/ فبراير 1925، أصدر الملك عبد العزيز بن سعود نداءً إلى "جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها"، كان أهم ما فيه، والذي مضت مفاعيله تتراكم لعقود مقبلة، التمكن من "طرد الحسين وأولاده الفئة الباغية من هذه الديار المطهرة. وبذلك زالت والحمد لله دولة الظلم والجبروت، وحلت الشريعة السمحة محل الأغراض والأهواء". ثم بعد أيام أصدر بيانا "لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز الحاضر منهم والباد"، يوضح "الخطة التي سنسير عليها في هذه الديار المقدسة"، حيث "سيكون أكبر همنا تطهير هذه الديار المقدسة من أعداء أنفسهم الذين مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه الديار المباركة، وهو الحسين وأنجاله وأذنابهم".

هكذا ظهرت نتيجة جهود لورانس وشكسبير: ثلاثة كيانات بينها حدود متصلة، يقف كل واحد منها في تنافس وعداء مع الآخر.

* * *

من يشاهد افتتاح البرلمان الاتحادي العراقي يدرك معنى قرن الهراء هذا.

حضر نواب التيار الصدري (73 نائبا) مرتدين الأكفان، والنواب الأيزديون بزيهم "الأيزدي"، والنواب الأكراد وصلوا أيضاً إلى مجلس النواب مرتدين الزي الكردي، أما الذين ترشحوا وفازوا بوصفهم ممثلي ساحات الاحتجاج، فقرروا المجيء إلى مقر البرلمان عبر عربات الـ"توك توك".

* * *

ما الذي أرمي إليه من كل هذا؟

هذا ما سأحاول الإجابة عليه في الأسبوع المقبل.
التعليقات (0)