قضايا وآراء

كتاب "عن الحرية" لـ"جون ستيوارت" ونقيضه العربي

محمود النجار
1300x600
1300x600
في كتابه الشهير "عن الحرية" (On Libert) الذي نُشر عام 1859، تناول جون ستيوارت ثلاث قضايا كبرى هي: حرية الفكر والمناقشة، واستقلال الشخصية، وحدود سلطة المجتمع على الفرد.

وقد كان هذا الكتاب ملهما في الغرب إبان التحول الديمقراطي والصعود نحو الحرية، ولا يزال هذا الكتاب يشكل رمزا وطنيا مهما يقدَّم للفائز في انتخابات بعض الأحزاب البريطانية، للتذكير بأهمية الحرية والديمقراطية في بناء مجتمع سليم.. وقد استطاع الغرب التحول نحو الحرية والعدالة الاجتماعية، ووضع لذلك قوانين صارمة ودساتير مدروسة بعناية، اكتسبت صفة القداسة، وألزمت الحاكم والمحكوم العمل بها والصدور عنها في كل شؤون الحياة، ولم تستطع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولا التغيرات الديمغرافية أن تعبث بها أو تعطي الفرصة لأحد للعبث بها، إلا بما يحقق المصلحة الوطنية ورفاه الشعب، وفي أضيق الحدود وضمن أطر قانونية صارمة.

وقد ركز ستيوارت في القضايا الثلاث على حرية الفرد، ودارت مناقشاته حول الإنسان بصفته المكون الاجتماعي الأول للمجتمع، وهو الذي تدور حوله سائر مفردات الحياة، وتعمل جميعها على إسعاده ومنحه أقصى درجات الحرية الممكنة التي يستطيع من خلالها ممارسة ذاته والانسجام معها بدون ضغوط أو تهديدات أو سلب لإرادته بأي شكل من الأشكال؛ وحين يتحدث عن العناصر الأخرى المكونة للمجتمع يتحدث عنها بصفتها خادمة لحرية الإنسان، وليس العكس.

القضية الأولى: حرية الفكر والمناقشة: فالفرد حر في تبنيه الفكر الذي يراه مناسبا لوعيه وثقافته، ولا يجوز لأحد أن يحجر عليه تفكيره، فلدى الفرد حقه في المناقشة للدفاع عن فكره وجلب التأييد له ومحاولة درء التأثير السلبي عليه..
حين تتحدث بلا خوف عن قناعاتك، وأنت تدافع عنها من دون أن تجد عصا غليظة ترتفع فوق رأسك؛ فذلك مما يمنح الفرد الكثير من الثقة بالنفس ويعزز من إحساسه بوجوده بوصفه أحد الأشخاص الذين لهم مكان وحضور ورأي مستقل في المجتمع، وهو ما يتيح للفرد حرية التفكير على كل صعيد، ليبدع ويخترع ويكتب ويغني ويرسم وهو في حالة مزاجية عالية

فإذا كان الفكر حرا والنقاش متاحا، بل ثمة ما يدفع إليه ويشجع التوجه نحوه؛ فذلك مما يعمق الوعي الثقافي والإنساني في نفس المواطن، ويجعله أكثر سوية؛ فحين تتحدث بلا خوف عن قناعاتك، وأنت تدافع عنها من دون أن تجد عصا غليظة ترتفع فوق رأسك؛ فذلك مما يمنح الفرد الكثير من الثقة بالنفس ويعزز من إحساسه بوجوده بوصفه أحد الأشخاص الذين لهم مكان وحضور ورأي مستقل في المجتمع، وهو ما يتيح للفرد حرية التفكير على كل صعيد، ليبدع ويخترع ويكتب ويغني ويرسم وهو في حالة مزاجية عالية ووتيرة حالمة غير متوترة؛ ولذلك تجدنا نحن العرب نعاني دائما من هاجس الخوف في بلداننا، وننتظر الأسوأ دائما، وكيف للخائف الفقير المنهك نفسيا وجسديا أن يبدع ويسهم في تقدم وطنه؟!

القضية الثانية: استقلال الشخصية: إنها الاستكمال الطبيعي للقضية الأولى التي تتحدث عن حرية الفكر والنقاش، فبدون الحرية لن يكون ثمة استقلال للشخصية، فلا شيء يكبت شخصية الإنسان ويفرم روحه أكثر من كبت الحرية والاستعباد.. فاستقلال الشخصية يعني أن تكون ذا قيمة تحددها أنت بنفسك وتطورها بطريقتك، فأنت أنت، لا ظل لغيرك، أنت المعني بوضع المحددات لشخصيتك بحيث لا تتنافى مخرجاتها مع القوانين المرعية، فلا أحد يستطيع أن يجبرك على اختيار دراستك ولا وظيفتك، ولا مكان سكنك، ولا أسلوب حياتك ورفاهيتك، فمن حقك أن تطالب بما يمنحك حرية اختيار ما تريد من أنماط العيش التي تعود عليك بالفائدة والسعادة؛ فالمعيشة لا تصلح إلا حين تكون شخصية الإنسان مستقلة غير خاضعة للضغوط ولا لأهواء الآخرين ولا لظلم المحيط الاجتماعي بمعناه الواسع..

إذاً فاستقلال الشخصية ضرورة حتمية للمعيشة الصالحة المبنية على وضوح العلاقة بين الفرد والمجتمع الذي يتكون من عدد كبير من الشخصيات المستقلة التي تبدع في اتجاهات شتى، وقادرة على التكيف مع الآخر بالطريقة التي تختارها في ظل أريحية وانسجام ووضوح في الرؤية المستقلة والرؤى التي يضعها المجتمع في طريق هذه الشخصية..

القضية الثالثة: حدود سلطة المجتمع على الفرد: التي نجد فيها إشارة رائعة لتوصيف الدائرة القانونية المحيطة بالفرد وصورة المجتمع، حسب المعطيات التي أقرها الدستور والقانون؛ فالحرية ليست مفتوحة على مصاريعها، بل ثمة ضوابط يلتزم بها الجميع من دون استثناء، فحريتك تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين، فالمجتمع الذي منحك الحرية يطالبك بعدم الاعتداء على حرية الآخرين، وأن تلتزم بالقوانين التي تعود عليك وعلى غيرك بالنفع، وتجني أنت وغيرك ثمارها.
أصابني هذا الكتاب بما يصيب كل حر من الحرقة والألم، وربما كان أحد المحفزات التي أسهمت كثيرا في بناء شخصيتي الرافضة للخوف والكبت والعنت الذي يكابده العربي في وطنه، منذ أن كنت في مطلع العمر، حيث 22 دولة عربية، لا توجد فيها دولة واحدة تستطيع أن تعيش فيها حرا بدون خوف

القوانين المحددة للحرية، لا تسمح لك بالاختيار حين يُطلب منك أن تخدم سنة أو سنتين في الجيش بناء على القانون النافذ على الجميع، ولا تسمح لك بتجاوز دفع الضرائب التي تنفقها الدولة على خدمتك من تعليم وصحة وطرق وبنية تحتية وما إلى ذلك.. فلك ما لك من حرية ورفاه واستقلالية، وعليك ما عليك من بعض التنازلات للوطن الذي منحك الكثير في مقابل أن تمنحه الاحترام لقوانينه وأنظمته..

لقد أصابني هذا الكتاب بما يصيب كل حر من الحرقة والألم، وربما كان أحد المحفزات التي أسهمت كثيرا في بناء شخصيتي الرافضة للخوف والكبت والعنت الذي يكابده العربي في وطنه، منذ أن كنت في مطلع العمر، حيث إن 22 دولة عربية، لا توجد فيها دولة واحدة تستطيع أن تعيش فيها حرا بدون خوف.. بل أعطني دولة واحدة منها نستطيع أن نعُدّها دولة مؤسسات حقيقية تتسم بالحيوية والمصداقية وتعدل بين مواطنيها، ويقع الجميع فيها تحت سلطة القانون بالتساوي دون تسلط الحاكم أو تغوّل الأكثرية أو الطبقة الثرية..!!

ما زالت القبلية المتشنجة تحكم عقولنا.. قبلية اجتماعية وقبلية ثقافية وقبلية سياسية وقبلية اقتصادية.. القبلية تحكم حياتنا بشكل مروع.. وتصمت الحكومات العربية على هذه المنظومة، بل تشجعها وتفتح لها الأبواب وتغذيها، فهي إحدى رئات الحاكم التي يتنفس بها.
كلمة الحرية تزعج الحاكم العربي، وهو الوحيد الذي من حقه أن يتحدث عنها ليتبجح بها، ويعزز بها قاموسه الخادع؛ فهو يتحدث عن الحرية في الصباح ويعتقل المعارضين في الليل، ولا تجد مقولة مرموقة لحاكم عربي عن الحرية كما هو الحال لدى كثير من الحكام والسياسيين في العالم

كلمة الحرية تزعج الحاكم العربي، وهو الوحيد الذي من حقه أن يتحدث عنها ليتبجح بها، ويعزز بها قاموسه الخادع؛ فهو يتحدث عن الحرية في الصباح ويعتقل المعارضين في الليل، ولا تجد مقولة مرموقة لحاكم عربي عن الحرية كما هو الحال لدى كثير من الحكام والسياسيين في العالم، ربما باستثناء عبارة لجمال عبد الناصر حين قال: "إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية"، وقد كان أبعد ما يكون عن الحرية والديمقراطية؛ فقد حكم مصر بالحديد والنار، وانساقت خلفه القطعان، كما يحدث في كثير من دولنا اليتيمة للأسف..

في المقابل نقرأ لمهاتما غاندي قوله: "الحرية هي روح الإنسان وأنفاسه، فكم ثمن هذه الأشياء"؟! حتى تركيب الجملة يشعرك بالدفء، ويجعلك تصدق أنه لا ينافق أحدا فيما قال، فهو يشبه الحرية بالروح، فإذا انتزعت فكأنما تنتزع روح الإنسان وتتوقف أنفاسه، ويختم بسؤال تقريري عاطفي: فكم ثمن هذه الأشياء؟!

وهذا مارتن لوثر كينج يقول: "لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت له". وتلك دعوة صريحة لاستقلال الشخصية ورفض العبودية والانحناء للبشر، وقد دفع لوثر كنغ حياته ثمنا لمطالبته بالحرية والمساواة مع البيض..

فكم علينا أن ندفع من أعمارنا لننعم بالحرية والعدالة الاجتماعية، وهل تبقى من العمر الكثير لننتظر؟!
التعليقات (6)
سمر
الأحد، 13-02-2022 05:37 م
لا شيئ في هذا العالم يستحق أن يأخذ تفكيرنا سوى قضية العرب الأولى فلسطين اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين
ام يحيى
الإثنين، 10-01-2022 12:59 ص
لم يبق في العمر بقية لنرى الحرية الحقيقية وصادق في كل كلمة فالعبودية هي التي طمعت العالم الاجنبي في عالمنا المتحضر في كل مجالات حياته الا انه مقفل على انفاسه بهذه العبودية وهذا الجبروت وهذا سبب من اسباب الهجرة لهذه العقول ليستفيد منها غير شعوبها وخاصه الشعوب الاسلاميه
تقوى تقوى
الأحد، 09-01-2022 11:04 م
نكأت جروحا أستاذنا. الحرية آخر شيئ يفكر الحاكم العربي في منحه للشعب لان وجوده مرتبط بقمع الحريات، فلو أعطى الحرية للناس لكشفوا خيانته وقضوا على وجوده. يجب أن ندفع ثمنا غاليا نيل حريتنا
بنت الثورة
الأحد، 09-01-2022 02:51 م
مرحى للغرب الذي أسس قواعد أساسية و مقدسات صارمةكالحرية و الديمقراطية جعلت من حياة مواطينيها جنة وارفة ذلك أنهم نصبو مفكريهم ملوكا يفيضون بأفكارهم المستنيرة في شتى شؤون الحياة ..مازلنا في هذا الوطن العربي يقتلنا الشتات و تنخر عقولنا أفكار ماضوية مضحكة ..ما لم نقدر ضرورة الفكر في البناء فستعصف بنا موجات التفاهة و ستبقى عقلية القطيع هي السائدة .شكرا على هذا المقال المؤسس المستفز لكل روح حرة نرجو أن تتكرر مثل هذه الطروحات
عيسى ابو مقدم
الأحد، 09-01-2022 01:47 م
حرية الفكر والتغيير مفقوده في البلاد العربية من المنزل للمدرسه للجامعات حتى في عملك لا توجد حرية الحرية ثقافة مجتمع أستاذ محمود وهذا ما نفتقده احنا اسكت شو بفهمك اسكت اسكت اسكت نحن لم نعبر عما يجول في خاطري