هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يأتي العام الجديد والعالم العربي يكرر أزماته نفسها ويجترها واحدة تلو الأخرى، استبدادا في السلطة السياسية، قمعا للحريات، نزاعات طائفية وقيما رجعية اجتماعية ما زالت تسيطر على وعي قطاعات واسعة.. لكن في تقديري أكثر ما كان لافتا ومحبطا للكثيرين هذا العام، هو إخفاق المظاهرات التشرينية في العراق ولبنان، من تحقيق تغيير في الخريطة السياسية الحاكمة في البلدين.
في لبنان، عرض قبل فترة فيديو من مرحلة منتصف السبعينيات، مع بدء الحرب الأهلية، يظهر مجموعة من المتظاهرين يطالبون بإلغاء الطائفية وبحكومة «وطنية»، مجرد الاستماع للشعارات المطروحة يبعث على الإحباط، ليس لعيب فيها، بل على العكس هي مطالب واعية وتدعو للسلم الأهلي ونبذ الطائفية، لكن الإحباط يتأتى من أن هذه الشعارات نفسها طرحت في مظاهرات لبنان الأخيرة، من جيل آخر هو ابن جيل السبعينيات، وعندما تستمع لها تشعر بأن الحال هو الحال بين جيلين ومن نصف قرن، المشاكل نفسها والشعارات نفسها، ولكن المفزع أكثر أن الشعب الذي يطالب بنبذ الطائفية السياسية، يذهب في كل انتخابات ويعطي صوته لزعمائه الطائفيين!
وقبل الانتخابات اللبنانية، التي ستحقق غالبا نتائج سابقتها نفسها، وإن حصل خرق محدود لأحزاب مدنية، ظهر بشكل جلي الانقسام بين متظاهري الحراك اللبناني، الذي أدى لانسحاب جمهور الضاحية الجنوبية، ومعظم جمهور حزب الله وأمل، الذين كثيرا ما قالوا إنهم «أحرقوا أول إطار سيارات في المظاهرات، وانسحبوا عندما تحولت المظاهرات لشتم السيد حسن»، وهكذا أصبحنا نرى تيارا يتظاهر بشعار «كلن يعني كلن» وتيارا مقربا من حزب الله وأمل يتظاهر ضد حاكم المصرف المركزي سلامة، وانتهى المشهد بأن تتحول بيروت لكانتونات مع كل تظاهرة، ويحضر الجيش، ليحمي «الشعب» في ساحة تشرين من هجمات الشعب في زقاق البلاط والخندق الغميق، وينتشر مع كل تظاهرات ليمنع الاحتكاك بين «الشعب» من أنصار تيار الحريري من السنة في طريق الجديدة مع منطقتين شيعيتين كالغبيري والشياح.
خرجت المظاهرات لأسباب مطلبية معيشية في الأساس، وكانت محاولة استثمارها سياسيا سببا في إجهاضها وتشتيتها، فما زالت مشكلة الطائفية السياسية والاجتماعية حاضرة في لبنان، والبعض لا يعتبرها مشكلة، بل واقعا اجتماعيا من الأفضل التعامل معه، بدلا من إضاعة الوقت في تغييره وممارسة «التكاذب المشترك» بدلا من العيش المشترك كما كان يردد كمال جنبلاط، لذلك بدأ الكثيرون يتحدثون عن إدارات حكم ذاتي وفدراليات للطوائف وغير ذلك. شيء مشابه حصل في العراق، خصوصا في السنوات الأخيرة بعد الاحتلال، حيث أصبح من الممكن قياس آراء الجماهير بدقة أكثر من خلال الانتخابات، فالدعوات المعارضة للأحزاب الدينية الطائفية الحاكمة، التي أطلقت في مظاهرات تشرين العارمة، أعطت انطباعا بوجود شبه إجماع شعبي ضد أحزاب السلطة الدينية، لكن مع ظهور نتائج الانتخابات، تبين أن الأحزاب الدينية الحاكمة نفسها حصدت أغلبية ساحقة من الأصوات، بل فاز مقتدى الصدر رجل الدين الشيعي بالمركز الأول، التيار الصدري الذي أسس جيش المهدي، وخرج منه كبار قيادات المليشيات الموالية للحرس الثوري الإيراني كالكعبي والخزعلي، وخرج السيد مقتدى ليقدم كالعادة خطابا محشوا بالعبارات المتناقضة من الدعوة للوطنية، إلى العودة للعمل بـ«البيت الشيعي»، مذيلا بيانه بلقبه الجديد: الإمامي الاثني عشري مقتدى الصدر. وكان من اللافت دائما حجم الانقسام والاستقطاب المذهبي سياسيا، عندما نرى أن الكتلة الفائزة بأكبر عدد مقاعد شيعية لا تحصل تقريبا على أي مقاعد سنية، والعكس، فمقتدى الصدر فاز بالمركز الأول، لكنه حصل على صفر مقاعد من المناطق السنية، والحلبوسي فاز بمناطق السنة وحصل على صفر مقاعد بمناطق الشيعة، وأحزاب الأكراد طبعا لا تحصل على مقاعد عربية، عدا هذه المرة في خطوة ذكية فعلها بارزاني في مخمور شمال العراق، فبارزاني، رغم أنه يعتبر العرب في مخمور مواطنين من عهد صدام، لكنه رأى أنهم أصبحوا واقعا مع الأكراد، وبدل أن يرشح في مخمور ونواحيها، أكرادا، رشح اثنين عربا هما، إخلاص الدليمي، وطعمة اللهيبي، والاثنان فازا، لأن الكرد والعرب صوتوا لهما، أي إنه في جميع الحالات لا بد من مراعاة الانتماءات القومية، إن لم تكن المذهبية، وكما يقول نيجرفان بارزاني، فإن السنة يخافون من المستقبل، والشيعة يخافون من الماضي، والكرد يخافون من الماضي والمستقبل.
حتى «حركة امتداد» التشرينية التي فازت بعدد من المقاعد، وتفاءل البعض بها، عادت لتنخرط مع ما يسميه متظاهرو تشرين أحزاب السلطة، وتبين أنها أصلا امتداد لبعض هذه الأحزاب، إذ إن جزءا من كوادرها كان في حركة البشائر بقيادة ياسر صخيل صهر نوري المالكي، كما أعلنت عن تحالفها مع «حركة الجيل الجديد» الكردية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع المالكي. وبحسب الصحفي المطلع علي الكرخي، فإن حركة «الجيل الجديد» التي أسسها شاسوار عبد الواحد، وحققت عددا من المقاعد في الإقليم الكردي، اعتمدت على دعم مالي من شاسوار، الذي حصل على جزء كبير من هذه القدرة المالية بدعم من المالكي، من خلال أراض وقروض خلال عهدة المالكي.
الحاصل أن هذه التظاهرات التشرينية في العراق ولبنان كانت في دوافعها الحقيقية تتعلق بمطالب معيشية، وأشعلتها الأحوال الاقتصادية البائسة، ولا علاقة لها بمواقف سياسية أو هوياتية، وهي المواقف التي تحضر في الانتخابات بشكل أساسي، وإن حاول البعض استثمارها في هذا الإطار السياسي، لذلك لم تنجح في تغيير الخريطة الحاكمة في بلدان منقسمة وتعيش مخاوف عميقة من هيمنة الآخر، الشقيق الآخر في الوطن.
(القدس العربي)