مقالات مختارة

ما قصة «تسليم أسلحة جيش المهدي» للأمريكيين؟!

وائل عصام
1300x600
1300x600

أثارت قناة «الرابعة» العراقية أزمة جديدة مع التيار الصدري، عندما ذكرت مذيعة القناة أن جيش المهدي باع سلاحه للأمريكيين عام 2004، واستشهدت بمقاطع فيديو سجلت في حينها لمواطنين من مدينة الصدر يسلمون أسلحة مقابل المبالغ المالية، دون تحديد لهوية هؤلاء، إن كانوا من جيش المهدي، أو من سكان مدينة الصدر، ومباشرة ثارت جماهير الصدريين واقتحمت مقر القناة في بغداد، وحطمت محتوياته، في مشهد «غوغائي» أثار تنديدا وانتقادات واسعة في العراق.


ومع هذه الحادثة تجدد النقاش حول حقيقة ما حصل عام 2004 بعد تسوية مع جيش المهدي، أعقبت معركة النجف في صيف ذلك العام، وانتشرت صور ومشاهد عديدة لتسليم الأسلحة آنذاك، للتدليل على صحة الواقعة، ولكن ليس الشائع دوما حول الأحداث التاريخية صحيحا أو دقيقا، خصوصا عندما تتدخل المناكفات والخصومات الطائفية والحزبية في وصف الأحداث، فقصة تسليم جيش المهدي أسلحته كانت عادة ما تتداول في أوساط الفصائل السنية وجمهورها الحانق عليه، بسبب ممارساته الطائفية التي لا يمكن لأحد أن ينكرها، وبسبب التنافس على «شرف احتكار المقاومة» ضد الاحتلال، التي كانت معظم عمليتها تنفذ من فصائل سنية، كما معظم المعارك مع الأمريكيين في مناطق سنية، وكذلك الأغلبية الساحقة من المعتقلين كانت من تلك «المحافظات الساخنة» حتى عام 2005، قبل أن تتحول نسبة كبيرة من هذه الفصائل السنية، ويا للمفارقة لصحوات أمريكية، تماهيا مع مزاج سني آنذاك يميل لأولوية قتال «القاعدة» وتحييد عدو أمريكي لمواجهة الميليشيات الشيعية وحلفاء إيران، فكانت النتيجة أن ظلت «القاعدة» وكبرت لتنظيم الدولة، وظلت الميليشيات الشيعية وحكمت الدولة!
ولكن اليوم باتت هذه المناكفات ضد «جيش المهدي» تصدر من طرف شيعي، في إطار نزاع البيت الشيعي القديم المتجدد مع الصدريين، وفي سبيل تقديم رواية مهنية لدقة ما حدث من «بيع جيش المهدي أسلحته للأمريكيين» فإننا سنعود لعام 2004 لنستدعي ما حصل في تلك الأيام التي عشناها بتفاصيلها في النجف.

 

ففي أغسطس 2004 وبعد أسابيع من المعارك بين الجيش الأمريكي وجيش المهدي، طالت أطراف مقبرة النجف، نجحت المراجع الشيعية الأربعة الكبرى، بالتنسيق مع شخصيات شيعية وحكومة إياد علاوي بالوصول لتسوية مع مقتدى الصدر، لإنهاء المعارك في المدينة الشيعية المقدسة، إذ توافق السيستاني مع الصدريين على اتفاق عرف حينها بـ»النقاط الخمس» في النجف، أبرز ما ينص عليه هو انسحاب الصدريين وجيش المهدي من النجف والكوفة، ومن مرقد الإمام علي وتسليمه لمكتب السيستاني، مقابل انسحاب القوات الأمريكية من النجف، ويومها شاهدنا الشيخ أحمد الشيباني مساعد الصدر، يلتقي مع حامد الخفاف من مكتب السيستاني في مرقد الإمام علي، لينجزا اتفاق تسليم الصحن والمفاتيح.

 

ولم يرد في هذا الاتفاق شيء عن تسليم أسلحة جيش المهدي للجيش الأمريكي، بل خصصت مراكز شرطة عراقية لاستلام السلاح، في إجراء شكلي لم يؤدِ لنزع سلاح جيش المهدي، وظهر ذلك جليا في أكتوبر من العام نفسه، أي بعد معركة النجف بشهرين، في مدينة الصدر، حيث فتحت مراكز الشرطة العراقية لاستلام الأسلحة، وبعضها كان يضم جنودا أمريكيين برفقة الشرطة العراقية، ومعظم الصور المنشورة هي من هذه المراكز في مدينة الصدر، وكان أغلب من جاء لتسليم سلاحه مقابل مبالغ مالية هم من السكان المحليين، مع عدد محدود من المقاتلين، والمؤكد حينها كما شاهدناه، أن جيش المهدي أخفى أسلحته ونقلها بشاحنات، وأوعز لبعض شيوخ العشائر بمدينة الصدر لتنظيم بعض السكان ومقاتلي جيش المهدي لإعادة أسلحة معظمها فاسد مقابل مئات آلاف الدولارات! هذا ما حصل عمليا، وإذا عدنا لتقرير وكالك الأنباء الفرنسية حينها، سنجد الخبر التالي: «أكد العميد أمير الدعمي معاون قائد الشرطة في مدينة النجف أن «الشرطة حددت ثلاثة أماكن لتسليم ميليشيا جيش المهدي أسلحتها، لكن لم يأت أحد حتى الآن لتسليم سلاحه».

 

إذن عملية تسليم السلاح كانت للشرطة العراقية، وليس «قوات الاحتلال»، وأسلحة جيش المهدي معظمها خبئ، أما سكان مدينة الصدر ومعهم مقاتلون صدريون فقد قاموا بشكل فردي بتسليم أسلحة، وليس ضمن عملية تسليم سلاح منظمة لجيش المهدي كفصيل عسكري، وظل سلاح الصدريين ينمو ويزداد حتى معركة «صولة الفرسان» في البصرة لاحقا، وصولا إلى سرايا السلام اليوم، ومن السذاجة التصديق أن هناك ميليشيا مسلحة يمكن أن تتنازل عن سلاحها طوعا دون إجبارها على ذلك بهزيمة عسكرية محققة، واتفاق استسلام .


هذا كان ما حصل عمليا، أما رسميا فلم يصدر عن التيار الصدري أي إعلان لتسليم السلاح، بل على العكس تماما، ظهر قادته حينها لينفوا ذلك، ورغم ضعف مصداقية التيار الصدري في التصريحات منذ ذاك الحين، إلا أن هذا النفي العلني كان يعكس قوة موقفهم التفاوضي المناوئ آنذاك، إذ قال الشيخ أحمد الشيباني لوكالة الأنباء الفرنسية إنهم «سيخبئون أسلحتهم ولن يقوموا بتسليمها إلى الشرطة أو الجيش العراقي». وأضاف أن «الجيش الأمريكي يعتقد أنه أنهى جيش المهدي، لكن مقاتلينا ما زالوا موجودين وسيتمكنون من العودة إلى مزاولة أعمالهم من جديد وجيش المهدي سيبقى».

 

أما القيادي الآخر عبد الهادي الدراجي، فقال في تصريح لوكالة رويترز «إن جيش المهدي لن يحل ولن يكون هناك أي عملية لنزع سلاح المقاتلين تحت لوائه» وإن مبادرة آية الله علي السيستاني، التي وضعت حلا لأزمة النجف، لا تتضمن حل جيش المهدي، أو نزع سلاحه. واضاف ولهذا «فإننا لم ولن نحل جيش المهدي».

 

وأكد الدراجي أن أنصار مقتدى الصدر «لن يشاركوا في أي عملية سياسية تجري في العراق، ما دام الاحتلال موجودا، لأن وجود الاحتلال يفقد أي عملية سياسية صدقيتها». انتهى الاقتباس من تصريحه لوكالة رويترز.


الأهم في اتفاق النجف أنه أظهر مقتدى الصدر وكأنه خرج أقوى، أو على الأقل غير ضعيف، إذ تغاضى بريمر حينها عن ملاحقة مقتدى الصدر بتهمة قتل الخوئي وسحب مذكرته القضائية بالقبض عليه، التي كان قد أوعز لمحكمة عراقية بإصدارها، ويتحدث بول بريمر وكذلك ضباط الجيش الأمريكي في مذكراتهم وتقارير الجيش الأمريكي عن معضلة ظاهرة مقتدى الصدر، كطرف شيعي متمرد، والخلاف والتباين بين الخارجية الأمريكية والإدارة المدنية المؤقتة للتحالف ووزارة الدفاع على كيفية التعامل معه، فبينما طالب بريمر الجيش بتجهيز خطة للقبض عليه أو اغتياله، فضلت قيادات عسكرية أمريكية أخرى التروي لتخوفها من ردات فعل جمهوره وميليشياته وتقويض الاستقرار في البيئة الشيعية المهادنة حينها، بينما كانت الجهود الأمريكية متركزة على معالجة التمرد السني في الفلوجة، ورغم التهدئة التي حصلت بموجب اتفاق «النقاط الخمس» ظل جيش المهدي بنظر الجيش الأمريكي المشكلة الأمنية الثانية في العراق، بعد تنظيم «القاعدة»، بل إنه قفز للمرتبة الأولى ببعض المراحل، خاصة أنه ينشط في مركز الحكومة، العاصمة بغداد، ويؤثر في العملية السياسية، والعلاقة مع القوى الشيعية التي كانت مجمعة تقريبا على قرار بعدم مواجهة الأمريكيين عسكريا بانتظار إقرار الدستور والانتخابات التي ستمنحهم السلطة، وهو للمفارقة قرار ومزاج أغلب القوى السنية اليوم، فكل جماعة تتعامل مع الأمريكيين وفق مصالحها الذاتية، وتقدم تبريرات أيديولوجية ووطنية كيفما اتفق، سواء بقرار مواجهة «الاحتلال» أو الاستعانة به!


وهكذا استمر جيش المهدي محتفظا بسلاحه وكيانه التنظيمي بعد اتفاق النجف 2004، وظهر ذلك جليا في عودة المعارك مع جيش المهدي في البصرة، فيما يعرف بـ»صولة الفرسان» عام 2008، التي قادتها حكومة المالكي بإسناد من طيران الجيش الأمريكي، ولنطلع على ما يقوله قادة الجيش الامريكي في تقاريرهم عن جيش المهدي، الذي أرقهم منذ معركة النجف، ينقل هذا النص عن قائد قوات التحالف سانشيز التالي: «أوضح سانشيز لسلسلة قيادته، كان الشاغل الرئيسي لقوة المهام المشتركة في ربيع 2004 هو مقتدى الصدر وأتباعه المقاتلين. هذا الحكم شاركه معظم قادة الولايات المتحدة في واشنطن، الذين اعتبروا الصدريين التهديد الأكثر أهمية لنقل السيادة المخطط له إلى حكومة عراقية مؤقتة في يونيو. كانت ميليشيا جيش المهدي التابعة للصدر راسخة في الجنوب ذي الأغلبية الشيعية بحلول ربيع عام 2004 بعد أن تسللت إلى الشرطة المحلية والحكومة، وأنشأت محاكم شرعية، وشكلت عصابات تهريب وخطف». وفي تقرير آخر: «ربما كان تنظيم القاعدة في العراق ينحسر كخطر رئيسي على التحالف بداية عام 2008 ، بدءا من صيف عام2007 ، ميليشيا جيش المهدي تحل محل القاعدة في العراق كخصم أساسي للتحالف. يعود هذا إلى عام 2004 عندما قاد مقتدى الصدر ثورات ضد قوات التحالف في النجف والمناطق الأخرى التي يسيطر عليها الشيعة». انتهى النص المقتبس من كتابthe surge لعمليات الجيش الأمريكي في بغداد ومحيطها.


(صحيفة القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)