هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يستوقف المرء أحيانا، ذلك النوع من السلوك الذي يصرّ فيه صاحبه ويلحّ على تظهير قضية محددّة، أو معنى معين، وبطريقة ربما تحمل استفزازا للآخرين تدعوهم لحملها والانفعال بها والتماثل معها إلى نفس مستوى درجة توتر صاحبها معها.
ولربما يترك هذا النوع من السلوك عند الآخرين نوعا من الدهشة والحيرة، وربما عدم التفهّم أحيانا، خاصة إذا ما كان صاحب الموقف اقتحاميا؛ لا يكتفي بمجرد الشرح العادي والمسترسل، إنما يستدعي سلوكه على حمل المخاطبين بالنهوض والحركة اللحظية المباشرة، بعد افتراض الإيمان الممتلئ والمشحون بالفكرة المطروحة.
وتكون مسافة الحيرة والدهشة واللاتفهّم بحجم المسافة الفاصلة بين حرارة صاحبها، وبين وضعية المخاطبين اللاهية والسادرة واللامبالية غير المكترثة ولا الجادة.
ولكن عند التمعن في هذا السلوك المصرّ والملحّ، والذي لا يتوقف صاحبه عن القول والحركة والتقريع والتذكير لحظة، رغم سلبية المحيط والمجتمع في الغالب، والتي تُظهر هذا النوع من السلوك المُصرّ والمُلحّ، والذي لا يتوقف صاحبه عن القول والحركة والتقريع والتذكير لحظة، والتي تُظهر هذا النوع من السلوك وكأنه سلوك تعرّضي، ويبدو في درجاته الساذجة كمن يحمل السلم بالعرض.
ورغم أن هذه التعرّضية تجلب لصاحبها الاعتقالات المتتالية التي لا تتوقف، والمضايقات والملاحقات التي تبلغ درجة تعرّض صاحبها للاغتيال، فضلا عن العنت والإرهاق وتنغيص العيش بإتلاف الممتلكات وحرقها، وفضلا أيضا، عن بث الإشاعات والتشهير والتجريح، خاصة لأجهزة أمن وكيلة ومشحونة بكل أمراض المتعطشين للسلطة؛ ولو على دبابات العدو وحرابهم.. عند المتعهّد بكل ذلك، ستكتشف كم أن المسألة تتعلق بما يعتمل في داخل نفس صاحبها بصورة دائمة غير متوقّفة، تماما مثل بركان نشط دائم الثوران، لا يهدأ عن إلقاء حممه وبأقصى درجات الحرارة الممكنة على هذا الكوكب في سخونتها ولظاها. هكذا كان الأخ والصديق المرحوم وصفي قبها، بركانا لا يكلّ ولا يملّ من الثوران.
للاحتلال الصهيوني سياساته القمعية الممنهجة المُرشّدة التي لا يتخلّف نسقها، خاصة مع حركات فلسطينية يعرّفها كعدو وجودي واستراتيجي، مما يسمح له بانتهاج سياسة استباحية.
فهذا الاحتلال لا تتحمل ديمقراطية مقدار نصف كلمة يمكن أن تخرج ممن يصنّفهم أعداء استراتيجيين، ولهذا كان الأخ وصفي قبها وعدد من أمثاله ممن أصبح السجن هو "بيتهم" الثاني، في العقود الثلاثة الأخيرة، ما يلبث يتنسم الحرية بضعة أسابيع وأحيانا تمتد لعدة أشهر حتى يتم إرجاعه وإعادة اعتقاله، فيما يشبه مهمة المناوبة الدائمة.. وهذه السياسة التي تعتمد التدويخ والترويض، والتيئيس، ونفض اليد، وبلع اللسان، لم تجدِ نفعا مع الأخ وصفي، بل كانت تزيده اتقادا واشتعالا.
كان الأخ وصفي قبها من الرجال القلائل - في مرحلة إعادة إنتاج أوسلو الترهيبية والتخويفية - الذين تميزوا برفع الصوت والجهر به على الملأ لإيقاظ الناس بعد الغفلة والسبات والميل للسلامة وراحة البال وعدم إيجاع الرأس، ولم يكن ليكتفي بمجرد الكلام المنمّق والذرب الذي يحرص صاحبه للظهور كمقنع أو كضيف شاشات ونجومية.
لقد كان الأخ وصفي من ذلك النوع المجازف المحرّض الذي لا يكتفي بمجرد رفع الصوت.. كان حرفيا "يدبّ الصوت" لإحداث أقصى تأثير يمكن للصوت أن يبلغه. وكان لدبّ الصوت هذا وظيفة ثورية من الطراز الأول، خاصة في ذلك الفراغ الكبير الذي نتج عن مرحلة القمع المزدوج – الداخلي والخارجي - الذي أعقب انتفاضة الأقصى، والمتمثل في الاحتلال، وفي أداته الأمنية "السلطة الفلسطينية الوكيلة".
في هذا الجو الكئيب الذي كان يعزّ فيه الكلام الحرّ، كان لدبّ الصوت أثره الكبير في تبديد طبقات الاغتراب الوطني التي ابتلينا بها. كان بمثابة الجمرة التي تتدفأ عليها جماهير شعبنا وذراري أمتنا.
لقد خسرنا في هذا العام – الثاني للكورونا - عددا من أولئك الذين تجمع بينهم هذه الصفة "دبّ الصوت". ذلك الصوت الحارّ والحقيقي الموجّه تحديدا، في وجه حلقة السوء الأساسية التي جثمت على صدر شعبنا، وأقصد السلطة الفلسطينية الوكيلة التي غدت جزءا عضويا من أجهزة أمن الاحتلال.
لقد غادرنا أولا الدكتور عبد الستار قاسم، رحمه الله، الرجل صاحب الكلمات المستقيمة والمتماثلة مع الحقيقة والنابضة برفض الذلّ والهوان والانحناء، لقد عرفناه مجاهرا برأيه ضد الانحراف الوطني منذ مطلع الثمانينيات، حين بدأ الفساد يستشري في شرايين منظمة التحرير مستبدلا (ذلك الفساد) معاني الوطنية الصافية، وعرفناه أيضا مناهضا للحلول الاستسلامية وشاهرا الحجج في وجهها ومعرّيا وكاشفا لسوأتها، كما عرفناه لسانا ناطقا في جميع المهرجانات واللقاءات الوطنية التي عقدتها قوى شعبنا الحيّة، عندما تم عقد مؤتمر مدريد ولواحقه في واشنطن، ثم الكارثة الكبرى في أوسلو، ثم ما تلاها من مسار الذل والاستسلام الذي لا يزال متواصلا حتى يومنا هذا. كان الدكتور قاسم عندما يتحدث في أي منبر، يعيد تسمية الأشياء ووضعها في مكانها، واستعادة تعريفها الوطني الأساسي والجوهري.
ودفع الدكتور قاسم ثمن مواقفه هذه، السجن والملاحقة وترهيب الأهل والأسرة، ومحاربته حتى في رزقه ووظيفته الجامعية، وفوق كل ذلك تعرّضه لأكثر من محاولة اغتيال على يد جلاوزة أجهزة أمن السلطة الوكيلة. لكن كل هذه المحاولات التي لم تتوقف، لم تزده إلا مضاء ووضوحا وصفاء، ولم يتهيّب التأشير إلى علّة الخلل والعفن باسمها الذي تستحقه!
أما ثانيا، فقد غادرنا الأخ الكبير "أبو عاصف – عمر البرغوثي"، الذي كان معجمه اللفظي القروي امتدادا للحياة الريفية، وللمكان الذي يقع وسط جبال وتلال فلسطين، كأنه في صدق طويته، قطعة متصلة وممتدة من هذا المكان، صادفته في ذات بوسطة بين معتقل ومعتقل آخر ربما في العام 2011، فأخذ يحدثني من وراء الجدار الحديدي الذي كان يفصل بيننا في تلك البوسطة عن أن كل استهلاكه المنزلي (من الفواكه والخضروات على أنواعها واللحوم والألبان ومشتقاتها، وحتى العسل أيضا ..) ينتجه ذاتيا في بيته وحواكيره وفي الأراضي الجميلة التي ورثها عن والده الحاج صالح، رحمه الله.
كان أبو عاصف أيضا معتقلا مناوبا منذ العام 1978، وكان لكلماته البسيطة، ولكن الحارّة والحارقة فعل السحر في النفوس.
سنتذكر تلك الوقفة الاسطورية في وسط مدينة رام الله – عاصمة أوسلو وعقر دارها (رام الله التي غدت مدينة هجينة، أسماها بنجامين بارت "قلب السراب الفلسطيني" سينكرها من عاشها في عقود الاحتلال ما قبل أوسلو).. في رام الله وقف يومها أبو عاصف وسط ذلك الفراغ الوطني الكبير وتلك الغربة الشديدة في الذكرى الأربعين لاعتقال شقيقه نائل (أحد أركان النضال الوطني) ودبّ الصوت يومها، لقد كان هادرا كاشفا فاضحا ومريرا، لكنه كان يُشع أملا ورجولة ووطنية عزيزة وثقة متناهية، لقد قدّم –رحمه الله- يومها محاسبة مريرة لكل المقصرين، بدءا من رأس الخراب محمود عباس نزولا إلى حكومته ووزرائه، وعرّج أيضا على تقصير الفصائل وعلى خنوع عامّة الناس ولهوهم وسدورهم.
قام –رحمه الله- لوحده بدور مساءلة لكل من يعنيه الأمر، ربما لا يستطيعه مجلس تشريعي ولا مجالس رقابية أخرى من أي نوع، كان مرآة ضميرنا الكامنة، قام بإشعالها وتفجير مكنوناتها نيابة عنا وعن الجميع، كان "أبو عاصف" رحمه الله "جبلا"؛ بالمعنى الحرفي للكلمة لا المجازي يلوذ به أبناء شعبنا، كان عاصما كبعض العاصمين الذين يبعثهم الله في أقوامهم ليلوذوا بهم عند المُلمّات المُدلهمّة.
كان هو يدبّ الصوت في تلك المناسبة، كأنه يودّعنا برسالة الوداع الأخير، ويترك فينا لوعته وحرقته ونبضه ووصاياه.
رحمكم الله يا جمراتنا الحارّة، وعوضنا الله عنكم خيرا، فالله حكيم عليم عندما اصطفاكم واجتباكم إليه، وإن كانت خسارتنا بكم كبيرة لحاجتنا الملحة لكم ولأصواتكم الحارة، غير أن ظنّنا بأنكم فزتم بالشهادة يعزينا. فلله ما أخذ وله ما أعطى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.