قضايا وآراء

السودان.. وكسر الباب المفتوح

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
كان قيام قائد الجيش السوداني بتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية واعتقال رئيس الوزراء عنده في "البيت"! تعبيرا خالصا عن واقع عميق في المجتمعات العربية، وفي القلب منها الدولة الحديثة (دولة ما بعد خروج الاحتلال الأجنبي). والحداثة هنا بالمعنى الزمني لا أكثر..

وأتصور أن الاحتلال الغربي لم يخرج من المنطقة العربية إلا بعد أن وضع عدة سيناريوهات لمستقبلها ومستقبل علاقته بها، والقدر المتيقن من قراءتنا التاريخية يقول إنه حدثت نقاشات واسعة في حقيقة الأمر حول كل ذلك، ودارت اتصالات وجرت اتفاقات وتحالفات واختراقات أفقية ورأسية، فلم يكن أحد من السذاجة ليتصور أن الغرب المسيحي سيترك للشرق الإسلامي فرصة زمنية يستجمع فيها قوته النافذة، ويعيد جمع شعوبه حول المعنى الأول والفكرة الأولى التي قام عليها ونهض بها.

ولعلنا نتذكر "وثيقة كامبل" والتي تعد إنجيل الغرب في التعامل مع شرقنا العربي/ الإسلامي إلى يومنا هذا، ولعل الأجيال العربية المتتابعة لم تقرأها بالوعي الكافي ولا تتذكرها بالحضور الكافي. ففي عام 1905 دعا حزب المحافظين البريطاني الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن برعاية رئيس الوزراء البريطاني وقتها هنري كامبل بنارمان (1836-1908م).
لعلنا نتذكر "وثيقة كامبل" والتي تعد إنجيل الغرب في التعامل مع شرقنا العربي/ الإسلامي إلى يومنا هذا، ولعل الأجيال العربية المتتابعة لم تقرأها بالوعي الكافي ولا تتذكرها بالحضور الكافي

المؤتمر انعقد وظل يتداول ويتناقش عامين كاملين حتى عام 1907، وخرج بتوصيات بالغة الأهمية عرفت تاريخيا باسم "وثيقة كامبل".

ماذا تقول أهم سطور الوثيقة؟ تقول: على الغرب أن يعمل على استمرار تأخر المنطقة العربية وتجزئتها وإبقاء شعوبها مضللة جاهلة متناحرة، وعلينا محاربة اتحاد هذه الشعوب وارتباطها بأي نوع من أنواع الارتباط الفكري أو الروحي أو التاريخي، وإيجاد الوسائل العملية القوية لفصلها بعضها عن بعض..

الوثيقة أشهر من أن تعرف لدى المهمومين بالهمّ العربي، وقد أشار إليها الأستاذ هيكل على استحياء في كتابة "القنوات السرية" الذي صدر عن دار هاربر كولينز البريطانية باللغة الإنجليزية عام 1996م، وصدرت منه أيضا نسخة عربية.

يقولون إن التاريخ خيط متصل موصول أوله بآخره، ليس مجرد سنين تتراكم بعضها فوق بعض.. بل هو تركيب حي، مستمر في حركته مستمر في تطوره.. وعليه فالحاضر لم يهبط علينا بالباراشوت فجأة.. الحاضر جاء من ماض موصول به تواصلا طبيعيا في كل مكوناته.
موقف الغرب الآن مما يحدث في السودان لا يتناقض مع ما ذكرناه أولا، فالغرب لا زالت استراتيجيته هي استراتيجيته، لكنه ينافق مثقفيه ومفكريه وبعض النخب هنا وهناك بصيحاته الكذوبة عن الحكم المدني ودور المؤسسات والأحزاب

وموقف الغرب الآن مما يحدث في السودان لا يتناقض مع ما ذكرناه أولا، فالغرب لا زالت استراتيجيته هي استراتيجيته، لكنه ينافق مثقفيه ومفكريه وبعض النخب هنا وهناك بصيحاته الكذوبة عن الحكم المدني ودور المؤسسات والأحزاب. وليبيا أمامنا نموذج متكامل لهذا الكذب البواح، والجنرال حفتر نموذج لذلك واستمراره مؤيدا ومدعوما طوال هذه الفترة الطويلة ما هو إلا التاريخ الذي يقول للجميع أنا التكرار.. أنا التكرار. لنتذكر فقط ونتأمل ما تقوم به فرنسا في أفريقيا، ففرنسا لا تتعامل مع طبقة سياسية وأحزاب.. فرنسا تتعامل مع جيوش وجنرالات.

لا مفر لنا من الإقرار بأن الفراغ السياسى الكبير في المجتمعات العربية استدعى الدور الذي نراه في كثير من البلدان للمؤسسة العسكرية.. فالفراغ يستدعي ما يملأه كما يقولون.. سنعلم أن حرص السلطة على هذا الغياب كان عنيفاً وشرساً في أغلب الأوقات، بدأه "الزعيم الخالد" في مصر طوال الخمسينيات والستينيات، واقتدى به كثيرون في البلدان العربية واستمر طويلا وما زال..

المؤسسة العسكرية بطبيعة تكوينها الوظيفي هي أكثر الكيانات الوطنية تنظيما وتماسكا، وهو شيء طبيعي في كل الدنيا، لكن غير الطبيعي ما حدث في المنطقة العربية من منتصف القرن الماضي. كثير من المفكرين والسياسيين والوطنيين الكبار كانوا على وعي ودراية تامة بأهمية الوعي الدقيق بوظائف وأدوار مؤسسات الحكم والسلطة والقوة، وعلى وعي أكثر بأهمية وجود توافق دائم ومصان بالدستور وبالعرف التاريخي حول دور هذه المؤسسات، أيضا التنظيمات السياسية والاجتماعية في إدارة شئون البلاد.
المؤسسة العسكرية بطبيعة تكوينها الوظيفي هي أكثر الكيانات الوطنية تنظيما وتماسكا، وهو شيء طبيعي في كل الدنيا، لكن غير الطبيعي ما حدث في المنطقة العربية من منتصف القرن الماضي. كثير من المفكرين والسياسيين والوطنيين الكبار كانوا على وعي ودراية تامة بأهمية الوعي الدقيق بوظائف وأدوار مؤسسات الحكم والسلطة والقوة

لن نتشاجر مع الماضي فلا يفعل ذلك إلا الحمقى، لكن ما يتحتم علينا التفكير فيه ووضعه على أولويات أهدافنا التاريخية الكبرى وبذل كل جهد ونضال من أجله؛ هو التوافق على طبيعة دور وحجم المؤسسة العسكرية، وإن لم نفعل فسيكون أي انتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي الذي يتوخاه كثيرون ريشة في مهب الريح.. والتي قد تذهب أيضا مع الريح التي ذهبت.

نعلم جميعا أن الشعب السوداني صاحب تاريخ طويل ومجيد في العمل السياسي.. كما ويتملئ بالقوى السياسية والتيارات الفكرية والأيديولوجية المختلفة.. نحن أمام شعب وصل إلى درجة من الوعي تجاوز في حقيقة الأمر أقطارا عربية كثيرة، وهذه الصفة بالذات هي جزء مهم مما يجري الآن.

فما زالت في السودان نخبة ثقافية وفكرية لها توجهاتها السياسية التي لم تفرط فيها رغم قسوة الظروف الاقتصادية والواقع الاجتماعي المرتبك، لا زال السودان "الشعب والوطن" يحتفظ بقدر كبير من الثوابت الفكرية والثقافية في وجوده ووعيه بهذا الوجود.
ما زالت في السودان نخبة ثقافية وفكرية لها توجهاتها السياسية التي لم تفرط فيها رغم قسوة الظروف الاقتصادية والواقع الاجتماعي المرتبك، لا زال السودان "الشعب والوطن" يحتفظ بقدر كبير من الثوابت الفكرية والثقافية

وأخيرا سيفعل الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان (61 سنة) والسيد محمد حمدان دقلو (46 سنة) خيرا كثيرا لأنفسهم أولا.. ولوطنهم ثانيا! إذا نظروا فقط إلى تاريخ السودان القريب، فما يحدث فيه الآن ليس جديدا، فقد سبق وعاش الشعب السوداني فترات أصعب وأكثر تعقيدا مما يحدث الآن، الفارق فقط عن الماضي هو حدة ازدياد الوعي العام باللحظة التاريخية الحاضرة.

لن ينسى السودان نموذج الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب (1934-2018م) الذي ترك السلطة للشعب راضيا ليكون الوحيد في تاريخ العرب والعروبة، ولن ينسى السودان أيضا من يقتل ويستبد بالشعب وحرياته وحقوقه بالعنف والبطش والإكراه.

وما زال الباب مفتوحا.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الأحد، 14-11-2021 03:44 م
.. ولكن للاسف فالشعوب العربية الطامحة الى الحرية لا تتعلم لا من التاريخ البعيد ولا القريب .. فرغم ان احداث الانقلاب العسكري الدموي في مصر بمآلاته واسبابه ونتائجة كان واضحا وجليا .. ورغم انه الان يتكرر ( بالمسطرة والقلم والحرف ) الا ان اشقاءنا في الدول العربية وكأنهم يسيرون مغمضي الهينين الى ذات النهاية وذات النتائج .. نعم فشلنا نحن المصريين في الحفاظ على ثورتنا .. ولكننا كنا نطمع ان يكون فشلنا عظة وعبرة يتعظ بها الاخرون كي ل يصلوا لذات النتائج من دمار وفساد وفشل .. وكأن على كل شعب او كل فرد ان يجرب بنفسه مسارات الفشل حتى يصل الى ذات الخبرة والقناعة .. الان .. اليوم وليس غدا .. وقبل فوات الاوان .. على الشعب في تونس والسودان وليبيا بمختلف توجهاتهم اليسارية واليمينية والفوقية والتحتية .. ان يبادروا بانتزاع حريتهم من ايدي المستبدين .. قبل ان يصلوا لما وصلنا له في مصر من جرائم انقلابية وافران بشرية على شاكلة رابعة والنهضة وغيرها .. وعلى من يعاونون الاستبداد الان ويصفقون له .. ان يعلموا ان الموضوع فقط هو عملية وقت .. فغدا سوف يكتوون بذات النار التي حرضوا عليها وذات الاستبداد الذي دعموه