مقالات مختارة

منطقة أفول الجيوش النظامية: من شرق المتوسط إلى الهندوكوش

وسام سعادة
1300x600
1300x600

لم يأخذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 بنصيحة الاكتفاء بحلّ الحرس الجمهوريّ والتشكيلات العسكرية التابعة مباشرة لحزب البعث، بل آثر «الحاكم المدني للعراق» بول بريمر في 23 أيار/مايو من ذلك العام حلّ الجيش النظامي نفسه، وتسريح كل عناصره وإلغاء جميع الرتب فيه. هذا في دولة، بل في كيان قائم أساسا، منذ تأسيسه البريطانيّ، على مركزية الجيش النظاميّ في عملية تكوينه وربط أوصاله ككيان.

زيّن الأمريكيّون عندما حلّوا للجيش العراقي أنّهم يقومون بإعادة بناء الأمّة من جديد في العراق، بما يلزم كسر شكلها القائم وإعادة تركيبه من جديد، فاختاروا سلوك درب إعادة إنشاء الجيش النظامي من الصفر أيضا. النتيجة بعد أحد عشر عاما كانت وخيمة؛ انهار هذا الجيش بشكل مريع أمام التقدّم السريع والدموي لقوات تنظيم «الدولة» (داعش)، ونُظِّمت بعناصره مذبحة سبايكر المرعبة وسواها. فرض نفسه إذّاك المنطق الذي يقول بأنّ مواجهة خطر مسلحين متحركين متطرفين، غير ميسّرة من خلال جيش نظاميّ، ويلزم بالتالي تشكيل قوة شعبية مسلّحة غير نظامية، هي التي تفتت بها المرجعية في النجف من خلال فتوى «الجهاد الكفائي»، التي سوّغت قيام «الحشد الشعبي» المتعدّد الفصائل، والمتفاوتة فصائلها في درجة قربها، بل تداخل بعضها، مع الحرس الثوري الإيراني.


في أفغانستان حدث أيضا أن انهار «الجيش الوطني الأفغاني»، الذي عكفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأطالسة على عملية تشكيله وتجهيزه وتدريبه منذ العام 2002. تبخّر هو الآخر ما إن باشر الأمريكيّون بالانسحاب، وأمام التقدّم السريع لحركة طالبان التي ظفرت بالمدن الكبرى الواحدة بعد الأخرى، وهي المرابطة على تخوم هذه المدن وتسيطر على أغلب الجغرافيا الأفغانية الوعرة منذ سنين طويلة.
سبع سنوات تفصل إذن بين جيشين نظاميين، قامت الولايات المتحدة بإعادة تشكيلهما من الصفر.
مع فارق أنّها لم تكن مضطرة لحل الجيش النظامي في أفغانستان، فالأخير مندثر عمليا منذ انهيار نظام حزب الشعب الديمقراطي (الشيوعي) مطلع التسعينيات، ولم تنجح مرامي أحمد شاه مسعود بعد ذلك في إعادة إنشائه على قواعد جديدة. هذا مع أنّ لجيش الدولة في أفغانستان تاريخا حافلا واتصلت تجربته على مدى القرنين الماضيين، وبالرغم من تبدّل النظم والعهود، بالتأرجح ما بين نموذج جيش الأحلاف القبلية، واقتباس فكرة الجيش النظامي كجسم مركزي هرمي منضبط مستقل بذاته عن الولاءات القبلية والإثنية.


أما الفارق الثاني، فهو أنّ الجيش العراقي النظامي في المرحلة الأمريكية انهار أمام تقدم «تنظيم الدولة»، ما سمح بالمقابل لصعود نجم «الحشد الشعبي»، في حين أن الجيش الأفغاني للمرحلة الأمريكية – الأطلسية انهار بشكل يكاد يكون سلميا في لوحته الأخيرة، أمام تقدّم حركة طالبان، وفي إثر انحسار الوجود العسكري الأجنبي. بالنتيجة اندثر أمام قوة مسلّحة غير نظاميّة، كانت للأمس القريب تُحارَب لإيوائها تنظيم القاعدة الذي انشق عنه تنظيم الدولة، تماما مثلما أن تنظيم الدولة فرع خراسان هو في الأصل انشقاق عن جماعة «تحريك طالبان» (مجلس شورى المجاهدين) المنتشرة في المناطق الباشتونية من باكستان (وزيرستان).


لكن طالبان «الحالية» التي تمسك بزمام الأمور في كابول حاليا، فيها ما يشبّه بـ«الحشد الشعبي» أكثر مما يشبّه بـ«تحريك طالبان» الباكستانية، أو بتنظيم الدولة في خراسان المتأتي، انشقاقا، من هذه الأخيرة، التي يجري الرهان شرقا وغربا في أن تكون حركة طالبان، خاصة بعد عودة الإمارة إليها على عموم أفغانستان، هي الأكثر فعالية في التصدي له.

وبصرف النظر عن مدى واقعية أو رغبوية هذا الرهان، فهو يقول شيئا ما عن واقع بات يمتد من أفغانستان إلى إيران فالعراق فسوريا ثم لبنان، وأيضا اليمن. واقع غير متشابه في كل شيء من بلد إلى آخر، بل مختلف في الكثير، بطبيعة الحال، لكنه يلتقي على واحدة، هي أنّه في كل هذه البلدان كانت حصيلة العقود الأخيرة تراجع مكانة الجيوش النظامية أمام الظواهر «الحرسية» و«الحشدية».


فمن الجيش النظامي «أرتش» في إيران الذي هبط من منزلته الإمبراطورية في أيام الشاه، إلى منزلة تأتي بعد «حرس الثورة» (الباسدران) بعد انتصار الثورة ثم قيام نظام ولاية الفقيه، إلى «الحشد الشعبي» الذي يسعى العراق منذ سنوات إلى مأسسته وقوننته، أي إلى إسباغ صفة «النظامي الجزئي» على ما هو في تعريفه قوة غير نظامية، إلى «تمليُش» الجيش النظامي في سوريا أكثر فأكثر بعد 2011، وتفريخ مليشيات محلية مؤطرة تحت مسمّى «الدفاع الوطني» وخلافه، تحارب إلى جانبه، أسوة بالفصائل الآتية من وراء الحدود، إلى لبنان الذي يعيش ثنائية غير مؤطرة بين قوتين عسكريتين، الجيش و«حزب الله» إذا ما استثنينا «مانترا»، أو مقولة: «لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته» التي اعتادتها البيانات الوزارية، الذي يمسك فيه الحزب بقرار الحرب والسلم إلى حد كبير، وينقسم الرأي حوله في المجتمع بحدّة بين الطوائف، كما داخل كل طائفة. إلى اليمن، الذي انتهت مرحلة كاملة من سيطرة العسكر على مركز الحكم فيه، دامت أربعين عاما، وأعقبتها سيطرة جماعة أنصار الله الحوثية على معظم الهضبة، تضاف إليها تشكيلات لا تزال تقدّم نفسها بلباس الجيش النظامي المتداعي.


من الصعب، بل من التعسّف، تفسير كل هذه المآلات بقالب تعليليّ أو شرحيّ واحد، إلا أنّ كل واحدة من هذه البلدان، من أفغانستان إلى لبنان مرورا بإيران والعراق وسوريا، وقفزا من لبنان باتجاه اليمن، تطرح سؤالا واحدا حول الأفق المتروك للجيش النظامي في كل منها، ويتفرّع منه سؤال مواكب، حول القوة الموازية، التي تنامت على حساب الجيش النظامي، أو كوصية عليه، أو كمستغنية عن وجوده.


فالمسألة في هذه البلدان أصبحت «تتجاوز» ما إذا كانت مجتمعاتها وأوضاعها صالحة للانتقال نحو الديمقراطية، أو إذا كانت الديكتاتورية العسكرية قدرا لها أو معطى يناقش في مقدار منحه للاستقرار أيّا كانت فحوى الأخير.


فالسؤال حول الديكتاتورية العسكرية أو الانتقال نحو الديمقراطية يصلح لبلدان مثل تركيا أو مصر أو باكستان. فهذه البلدان الثلاثة تشكلت الدولة الوطنية في كل منها حول العسكر، وليس في أي منها قوة مسلحة على الطريقة «الحرسية» أو «الحشدية» تنادد الجيش النظامي. كما أن هذه البلدان الثلاثة تسيّج منطقة «أفول الجيوش النظامية» الممتدة من جبال الهندو كوش إلى ساحل المتوسط إلى جنوب البحر الأحمر.


المضمر إذن؛ الانتقال من الاستفهام حول مدى قابلية هذه البلدان للتحول الديمقراطي، إلى الاستفهام حول مدى قابلية الجيوش النظامية فيها لاسترجاع وجودها (في حال أفغانستان واليمن)، أو مكانتها (في حال إيران والعراق وسوريا ولبنان)، حيال القوى المسلّحة غير النظامية.


يبقى أنّ كل الفارق يكمن في هوية من يتفاعل مع هذا الاستفهام؛ فالمروحة واسعة هنا بين من أخذ يضمر التفكير بأنه لربما كان هذا الشكل من السيطرة لقوى غير نظامية على كل هذه البلدان، يمكن أن يؤدي نتيجة «تحررية وطنية» أفضل، وبين من يرى على العكس تماما؛ أن سيطرة هذه القوى من الممكن التعامل معها «إمبرياليا» بشكل أفضل، بحيث يكون بإمكانها ضبط الأوضاع في هذه البلدان، بالتواطؤ مع المسيطرين عليها حينا، وقنصهم في جرعات تذكير أو تأديب من حين إلى آخر. قنصهم في إطار احتوائهم، والعمل على تشذيبهم. فهكذا كانت الامبراطورية الرومانية تتعامل مع البرابرة، وبالتالي الأفضل إبقاء هذه البلدان تحت غلبة القوى المسلحة غير النظامية، كحقل تجريبي مزمن لا يبدو أن صفحته ستطوى على أية حال في الجيل الحالي. هذا بالنسبة لمن يبحث عن التكيّف مع الحال الحالية. لكن ثمة أيضا من لا يزال يمنّي النفس بإعادة تغليب الجيوش النظامية، ولا يجد من طرح بديل غير الرجعة إلى زمن مضى، و«بلا كيف».

 

(عن صحيفة القدس العربي)

0
التعليقات (0)