قضايا وآراء

حوار ملكين عند ترابى

إبراهيم الديب
1300x600
1300x600
على شفير قبري في ساعة من عام 2040م (1462 هجري)، حيث هناك بعض الأتربة، مع بقايا جمجمة بشرية - "مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ" (طه) - تدل على أن هذا التراب يعود لإنسان، وقف ملكان، ودار بينهما هذا الحوار.

ولحديث الملائكة طبيعة خاصة - "الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (فاطر) - غير ما عليه طبيعة البشر. فهم من خلق الله تعالى، لكنهم خُلقوا من نور وهم عباد مكرمون، لا يعصون الله تعالى ويفعلون كل يأمرهم به الله سبحانه وتعالى، ويمتكلون قدرات يختلفون فيها عن البشر حيث أنهم لا يأكلون ولا ينامون ولا يشرون ولا يتناكحون مثل البشر، كما أنها يمتلكون قدرات خارقة للطبيعة البشرية بحسب وظيفة كل منهم، فهناك الحفظة وهناك الكتبة وهناك حملة العرش.. الخ.

وبحكم طبيعتهم كملائكة، واطلاعهم على جزء من الغيبيات غير المرئية للإنسان، واطلاعهم على بعض من مقدمات أحوال اليوم الآخر، واهتماماهتم وأولوياتهم، في سياق كل ذلك ستكون أسئلتهم ذات بوصلة وعمق خاص جدا، نتبين تفاصيلها من فلسفة أسئلتهم، وما يدور بين الملكين من حوار.

المَلَك الأول: لمن هذا القبر، وما اسمه؟

المَلَك الثاني: من أي زمان هو؟

المَلَك الأول: ما دينه، وبماذا كان يعتقد، وماذا كان يعبد؟

المَلَك الثاني: ماذا كان يفعل في الدنيا؟

المَلَك الأول: ماذا ترك في الدنيا؟

في الأسئلة الخمس حقائق كثيرة وعميقة تسترعي الوقوف والتدبر..

السؤال الأول: لمن هذا القبر، ما اسمه؟

سؤال يبحث في تعيين صاحب الجمجمة والتراب والقبر والجسد والروح التي كانت تسكنه. وكل ذلك عائد يوم القيامة باسمه واسم أبيه وجده، فلكل إنسان نسخة واحدة غير مكررة، وهو المُعين المحدد باسمه وروحه، ومُحددة ساعة ولادته ووصوله للدنيا، وساعة موته وخروجه من الدنيا، ومُحددة أيام وساعات ودقائق عمره بالدنيا، وكلها منذ البلوغ مسجلة وتحت التدقيق والمحاسبة بشكل فردي (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)، يأتي ويحاسب وحده (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ).

السؤال الثانى: من أي زمان هو؟

فبذلك تعرف الملائكة المحطة التاريخية والسياق العام الذي كان يعيش فيه هذا الإنسان كمدخل لفهم حقيقة اصطفافه بين فريقي الحق والباطل، ودوره وواجباته وعمله وإنجازه. فالحياة الدنيا من بدايتها حتى نهايتها إن هي إلا عدد من محطات الصراع المتتالية.. "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز" (الحج).

كما بيّن لنا القرآن الكريم عدد من هذه النماذج في محطات تاريخية مختلفة، حيث يقوى الطغاة ويسود الاستبداد والظلم والفساد ويعم الكفر ويتلاشى الإيمان من الأرض، فيرسل الله تعالى الرسل تترى مرة بعد مرة في محطات تاريخية؛ تُعنون وتُسمى كل محطة باسم كبير الطغاة فيها والنبي المرسل إليها.

حدثنا القرآن في سورة الأنبياء عن هذه المحطات التاريخية وما فيها من صراع، بداية من محطة فرعون وموسى، ثم إبراهيم وقومه، ولوط وقومه، ونوح وقومه، وداود وسليمان وقومهما، وأيوب وقومه، ثم إسماعيل وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، حتى جاءت المحطة المحمدية في التاريخ البشري بين مشركي مكة ومحمد صلى الله عليه وسلم، لتكون محطة تاريخية خاصة ومميزة عن غيرها، حيث سيتوقف إرسال الرسل نهائيا، ليحمل أناس من المؤمنين مهمة الإصلاح وتحرير الناس من الطغاة والمستبدين والظلم والفساد والكفر، والأخذ بهم إلى الحرية والكرامة الإنسانية والعدل والإيمان والصلاح، وينتشر الناس في بقاع الأرض ويكثر عددهم وبنيانهم المادي، وتستمر حلقات الصراع بين الحق والباطل في مستوياته المحلية والإقليمية والدولية، وتبقى حقيقة اصطفاف وانتماء الإنسان إلى أي فريق منهما، فهما فريقان فقط لأن الصامت السلبي في حقيقته ينتمى إلى فريق الباطل.

ولهذا يسأل المَلك أخيه المَلك الآخر: من أي زمان هذا الميت؟ حتى يستحضر مشهد محطته التاريخية التي ينتمى إليها. وفي ما يخصنى أنا صاحب القبر، فقد كنت أنتمي لحقبة السيسي، طاغية العصر في مصر، وتحالف الثورة المضادة إقليميا لطغاة ومفسدي ذلك العصر.. السيسي وابن زايد وابن سلمان وحفتر والأسد ودحلان وحمدوك ومن على شاكلتهم.. وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، والطغيان الأمريكي العالمي. وبطبيعة الحال سيتم تصنيفي إلى فريق الطغيان والفساد، أو فريق المقاومة والتحرير والإصلاح.

السؤال الثالث: ما دينه، وبماذا كان يعتقد، وماذا كان يعبد؟

فلا بد لكل إنسان من عقيدة يؤمن بها ودين ينتمي إليه، وذلك أساس الفصل بين الناس يوم القيامة والحساب. تجيب على أسئلة تصوراته عن الإله، والكون، والمصير، ومن يعبد، وبمن يأتمر ويطيع، ومن يتولى ويستشفع، وممن يتلقى تشريعاته ونظام حياته، ومن ربه الذي يعوله ويرزقه ويلجأ إليه ويطلب منه.

- "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى).

- "قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد" (الإخلاص).

- "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَـوَاتِ وَالأرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى اللّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (الأعراف).

- "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" (الفاتحة).

- "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ" (النحل).

- "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ" (ص).

- "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" (الأنبياء).

السؤال الرابع: ماذا كان يفعل في الدنيا؟.. عمله اختبار الحياة

السؤال هنا سؤال استراتيجي وكبير يسأل عن الرسالة والمهمة في الحياة، ومدى وعي هذا الإنسان برسالته في الحياة؛ التي خلق من أجلها؟ - "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات) - وفهم مقتضيات هذه العبادة وكيف يقوم بها، عبر رسالة ومهمة العمران الحضاري في الأرض بشقيها المعنوي والمادي؛ المعنوي بالمعتقدات والمفاهيم والتشريعات القرآنية البنائية الحضارية للإنسان والأسرة والمجتمع والمجتمعات الإنسانية والتعايش الحضاري الأمن المستقر فيما بينها، والمادي بالمساهمة في تعزيز التطور الحضاري من تكنولوجيا وعمران مادي لتحضر وتطوير حياة الناس، وتعزيز أمنهم واستقرارهم ورفاهيتهم في الحياة، وأن هذه الرسالة والمهمة هي محل اختباره في الحياة والتي سيتقرر مصيره عليها.. "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك).

وهل كان لهذا الإنسان حلم في الحياة أم لا؟ وما هو هذا الحلم، ومدى علاقته برسالته ومهمته التي أمره الله تعالى بها في الحياة؟ وهل كان يعيش لنفسه فقط، أم لدينه ومجتمعه ووطنه والناس كافة؟

السؤال الخامس: ماذا ترك في الدنيا؟

السؤال هنا سؤال الإنجاز والجودة.. ماذا حقق هذا الإنسان وأنجز في فترة وجوده في الحياة؟ ومدى قيمة وفاعلية هذا الإنجاز؟ وما هو مدى تأثيره التحرري والإصلاحي والبنائي في عمارة الكون وتحسين جودة الحياة في الأرض؟

وهنا يتباين الخلق كثيرا، حيث جاءت الآية مطلقة، فاتحة الفضاء والمجال للتنافس الإبداعى بين البشر ليستثمروا كامل طاقتهم الفكرية والمادية في إنجاز أفضل شيء لديهم لخدمة الحياة وعمارتها - "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" - أحسن عملا، وحسن العمل هذا يرتبط بعدة أشياء ومعايير:

أولا: طبيعة المحطة التاريخية، واحتياجات الحياة فيها.

ثانيا: المواهب والمعارف والقدرات التي يمتلكها الفرد ويحافظ عليها وينميها لتعزيز قدرته على الفعل والإنجاز.

ثالثا: صحة وجودة هذا العمل، والتي ستحدد مدى صلاحيتها واستمراريتها الإصلاحية في الحياة؟

وهنا دعاء جيد اشترك فيه ابن تيمية ومحمد إقبال وهو "اللهم ارزقني عمرا مديدا"، أي عملا صالحا وعلما نافعا يمتد أثره زمنا طويلا أطول من مقدار سنوات حياتهم. وأضيف على هذا الدعاء الاستراتجيي الكبير "اللهم ارزقني عمرا مديدا إلى قيام الساعة"، أي يفتح الله تعالى علينا بعلم نافع، وعمل إصلاحى كبير يمتد أثره إلى قيام الساعة.

خلاصة القول، الحياة مسؤولية كبيرة جدا، والأمر بعد الموت رحلة جديدة وغير مسبوقة، غائبة عن الرؤية البصرية نحاول تبينها من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وهول ودقة الحساب كبير وخطير وعسير إلا على من يسره الله تعالى عليه، وأدركت مقولة عمر: يا ليت أمي لم تلدني. ليس لنا إلا رحمة الله تعالى وعمق الإيمان واليقين به جل في علاه، والاجتهاد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا في مشاريع التحرر والتربية وبناء الإنسان والأسرة والمجتمع والدولة الراشدة العادلة التي تؤمّن للناس حريتهم وأمنهم واستقرارهم.
التعليقات (2)
د ابراهيم الديب رئيس مركز هويتى لدراسات القيم والهوية اسطنبول
الأربعاء، 18-08-2021 12:27 م
بارك الله فيك استاذ رائد حقا ليسللإنسان إلا ما سعى ، وواقعنا العربي والإسلام يفرض علينا تحديات وواجبات نوعية كبيرة
رائد قطناني
الإثنين، 16-08-2021 02:53 ص
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فتح الله عليك دكتورنا الغالي يا رب اعنا على العمل والإنجاز والتميز وارزقنا العمر المديد الى قيام الساعة