هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الطبيعي أن ينشغل الجزائريون بالتجاذب السياسي السائد
في تونس الشقيقة، فالجزائر وتونس كالجسد الواحد إن أصيب أحدهما بمكروه، تداعى له الآخر
بالانشغال والقلق ما دام ماضينا وحاضرنا ومصيرنا قاسما مشتركا. وعليه فإن الاهتمام
بهذه الأزمة السياسية ليس تدخلا في شؤون تونس، بل هو من صلب الواجب كمظهر من مظاهر
الدعم لسيادة تونس الشقيقة، الساعية إلى صناعة مستقبلها بإرادة أبنائها الحرة، بمنأى
عن تطاول بعض القوى الأجنبية التي تريد دسّ أنوفها في شمال أفريقيا من أجل عرقلة المشروع
الديمقراطي.
لا شك أن بعضكم قد لاحظ أن عنوان المقال مقتبس من كتاب:
“أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي ألفه السياسي المصلح خير الدين التونسي(1820-
1890) الذي ساهم في بعث النهضة السياسية في تونس وفي الدولة العثمانية بأفكاره النيّرة
التي استوحاها من تجاربه السياسية التي قادته إلى زيارة العديد من الدول الأوروبية
في القرن التاسع عشر الميلادي. إن الغاية من ذلك، هي الإشارة إلى أن تونس رائدة في
نشر الإصلاح السياسي في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، فتونس هي أوّل
بلد عربيّ ظهر فيه الدستور، وظهر فيه البرلمان.
هذا ولم يكن خير الدين التونسي وحيدا، بل كان له صنو في مجال
الإصلاح السياسيّ في النصف الثاني من القرن 19م، وهو أحمد بن أبي الضياف (1804–
1874م) مؤلف ذلك الكتاب الشهير:” إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وعهد الأمان”. هذا وقد
الذي أسند له باي تونس مهمة تحرير الدستور(عهد الأمان) سنة 1861م، وفي سياق هذا الحدث
جرى نقاش بين الرجلين، أوضح فيه ابن أبي الضياف لباي تونس أن هذا الدستور سيقيّد حريته
المطلقة، فردّ عليه الباي بأنه مستعد لقبول تقييد حريته، مادام الأمر في صالح الشعب:«
فقلت له بمحضر أولئك الجماعة: يا سيدي! إن الأمر صعب على مثلك، فأعرف ما تلتزم به،
فإنّك بهذا الأمر تكون يداك هكذا، وقبضتُ يديّ إلى جنبيّ. فقال لي: لأجل نفع الرعية
أرضى أن تكون يدايّ هكذا، وقبضهما إلى جنبيه قبضا أشدّ من قبضي. فقلت له: هنيئا لك.
وأمرني بإنشاء مكتوب عهد الأمان بمحضر الجماعة.». – فيا حبّذا لو يقرأ الرئيس التونسي
قيس سعيد بإمعان هذا النص التاريخي، لما له من دلالة إصلاحية عميقة!
والحق أن مساهمة تونس الشقيقة في الإصلاح والإبداع قبل ثورات
الربيع العربي، كان بارزا أيضا في مجالات اجتماعية وفكرية عديدة، لعل أبرز أعلامها
محمد الطاهر بن عاشور في المجال الفقهي، وأبو القاسم الشابي في مجال الشعر الثوري الملتزم
بقضايا الشعب، والطاهر حداد في مجال الإصلاح الاجتماعي، وقد أبقى الدهر كتابه الموسوم:
“امرأتنا في الشريعة والمجتمع”(1930م) الذي أحدث دويّا في الساحة الثقافية في حينه،
بدعوته إلى وجوب إصلاح شؤون المرأة، علما أن الرئيس الحبيب بورقيبة قد تبنى أفكاره
هذه. والحاصل أن مواكبة تونس للتطور والرقيّ، لم تكن وليدة ظروف الربيع العربي الأخير
(2011م) كما يتصوّر بعض السياسيين العرب الذين لم يقرؤوا تاريخ تونس بإمعان، بل هي
ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، لا يتسع المجال لذكرها.
لا يختلف اثنان عاقلان حول مسألة “مرض الثورة التونسية” التي
عجزت عن تحقيق أحلام التوانسة الأشقاء في الرقي والرفاهية، وفي تجاوز شبح الركود الاقتصادي
والبطالة والتضخم والفساد السياسي. لكن الاختلاف يكمن في طريقة العلاج، فهناك من يرى
أن للديمقراطية آليات عديدة وكافية لإنقاذ الثورة التونسية من الفشل، منها على سبيل
المثال الحوار بين فعاليات المجتمع المتنوّعة، وتشكيل حكومة جديدة، أو إجراء انتخابات
وطنية مسبقة لتجديد الطبقة السياسية، أو حتى تعديل الدستور إن دعت الضرورة إلى ذلك
لإعادة النظر في النظام السياسي شبه البرلماني الحالي. وبعبارة أوضح فإن التغيير حسب
هذه الرؤية يجب أن يتم في إطار الشرعية الدستورية التي أقرّها الشعب التونسي. وفي هذا
السياق هناك من يرى أن قرار الرئيس قيس سعيد هو انقلاب على الدستور بامتياز، خاصة وأن
مخطّطه مؤسّس على تجميع السلطات في يده، وهو ما يُعدّ توجّها شموليا قد يعيد تونس الشقيقة
إلى سابق عهدها الاستبدادي.
لكن من جهة أخرى هناك شريحة معيّنة من المواطنين التونسيين
يرون أن المؤسسات السياسية الشرعية الحالية عاجزة عن إخراج تونس من عنق الزجاجة، وقد
يئس هؤلاء المواطنون من الطبقة السياسية الحالية التي يتهمونها بالفساد بالجملة، لذا
فهم مستعدون لقبول وثبة سياسية ناجعة جريئة تنقذ تونس من جحيم الفساد والركود، حتى
ولو تمّت على حساب الشرعية الدستورية.
في الوقت الذي كان البعض يحتفلون في الشوارع مرحّبين بقرارات
الرئيس قيس سعيد، كانت هناك بعض النخب (أحزاب ومجتمع مدني وشخصيات)، تدقّ ناقوس الخطر
إزاء مبادرة الرئيس الذي يسير – حسب رأيها- في اتجاه تكريس حكم شموليّ يجعله يستحوذ
على كلّ السلطات. ولعل ما يزيد في قلق البعض، إقحام الجيش لأول مرة في تاريخ تونس في
الصراع السياسيّ، وترحيب بعض دول عربية معروفة بأطماعها التوسّعية، بما يقع في تونس
من تحوّل قد يسير عكس اتجاه قيم الثورة، التي تقلق كثيرا الدول الراعية للاستبداد.
أمام نشوة الرئيس إزاء تحرّك الشارع لصالحه، جاز لنا أن نتساءل
إن لم يكن ذلك مجرد حنين إلى الشعبوية الضارة التي أهلكت العرب؟ ثم هل تَصْدُقُ مقولة
القاضي عبد الجبار المعتزلي(935- 1025م) التي مفادها: «ليست الكثرة من أمَارَاتِ الحق،
ولا القِلة من علامات الباطل» على ما يجري في تونس من نقاش بين الجماهير والنخب حول
خرجة الرئيس قيس سعيد؟ على أيّ حال فإن الأزمة خانقة يصعب التكهن بمغبتها. وقد يكتشف
الرئيس التونسي أن حساب الحقل لا يتوافق مع حساب البيدر، خاصة مع الضغوط الاقتصادية
والاجتماعية التي صار الآن مسؤولا عنها مباشرة، بعد تعطيله للمؤسسات الشرعية. ومن يدري
لعل ذلك سيجعله يراجع موقفه المتشنج مراجعة عقلانية تعيده إلى المنطق المؤسساتي.
مهما يكن من أمر فإن ما يجب أن تحتاط منه التجربة الديمقراطية
التونسية الناشئة وأن تسعى إلى تجنبه بكل الوسائل السلمية، هو منطق الإقصاء الذي يستهدف
حركة النهضة حاليا رغم التزامها بالقواعد الديمقراطية وتقديمها تنازلات كثيرة، مراعاة
لوضع تونس المعقد وللتجارب العربية الأليمة. صحيح أن لحركة النهضة مسؤولية لا يستهان
بها في ترنح الثورة، لكنها لا تتحمل المسؤولية بمفردها، بدليل أن القوى السياسية –
بما فيها الرئيس قيس سعيد- لم تلتزم بتأسيس “محكمة دستورية عليا” التي من مهامها الفصل
في القضايا الخلافية بين الأطراف السياسية المختلفة، كالاحتقان السياسي الحالي مثلا.
إن مصلحة تونس تقتضي تكريس التعايش بين التيارات السياسية
المتنوعة، وإقصاء الإقصاء، واحترام مبدأ فصل السلطات وحرية التعبير واستقلال العدالة،
وفتح المجال السياسي للمنافسة الشريفة لكل الأحزاب التي تحترم قيم الديمقراطية. إن
ما يقتضيه العقل في بناء صرح دولة العدل والقانون هو الانتصار للقواعد الديمقراطية،
وليس التخندق في خندق إيديولوجي معيّن ضد آخر، أو تغليب نزوة فردية تكرّس منطق النظام
الشموليّ.
رجاؤنا في الأخير ألاّ تُجْهَض الثورة التونسية الواعدة مثلما
اُجْهِضَت إصلاحات خير الدين التونسي وأحمد بن أبي ضياف في القرن التسع عشر، من طرف
موظفين انتهازيين متحالفين مع الدولة الفرنسية، بعد أن أدركوا أن الإصلاح السياسي يضع
حدا للفساد السياسيّ الذي جعل منهم أثرياء على حساب مصالح الشعب ودولته، ويضع حدا للأطماع
التوسعية الفرنسية.
(الشروق الجزائرية)