هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في أحد أفلامه، يطلب بطل أفلام الحركة الشهير "بروسلي" من تلميذ له، أن يشعر بركلته التي يركل بها الخصم؛ كمن يشير بإصبعه إلى القمر، وحينما يلتفت التلميذ إلى إصبعه، يطلب منه ألا ينظر إلى إصبعه حتى لا يفقد المجدَ السماوي، وفي ختام المشهد، ينحني له التلميذ، بطريقة استدعت توبيخ المعلم له، الذي كرّر الفكرة مرة أخرى بقوله: "لا ترفع عينيك عن الهدف حتى حينما تنحني"، وبما أن الحياة، بأبعادها كلها صراع، أو كما في التعبير القرآني (تدافع)، فإنّ الأهداف التأسيسية لا ينبغي الالتفات عنها لصالح الوسائل، أو لصالح مجالات الشغل المأزومة.
يبدو تشوّش الأهداف المقرون بعصبية الوسيلة.. من أكبر إخفاقات الحركة الإسلامية الراهنة، لاسيما تلك التي تُصَنَّف في خانة "الإسلام السياسي"، وفي حين تحتاج الوسائل ومجالات الاشتغال إلى مراجعة دائمة، وبحث في الجدوى، وفي صوابية المسار، فإنّ المراجعة تطال عادة، المنطلقات التأسيسية، والمقولات المسوغة للوجود الأصلي، لكن وبمرور الوقت، تتضخم الوسيلة السياسية، بما تستبعه من براغماتية عالية، ويسبق ذلك عدّ الجماعة أصلا وغاية، مع أنها يفترض أن تكون وسيلة لتحقيق الأهداف.
هذا شأن عام في الأحزاب، بيد أنه أكثر إشكالية في حالة الإسلاميين، وذلك لأنهم أولا؛ يُقدّمون أنفسهم بديلا عن المنظومة القائمة برمتها، ثم ما لبثوا مع نزعات التسييس المفرطة أن تحولت أهدافهم إلى الاندماج في هذه المنظومة بشروطها، وثانيا؛ لأن أهدافهم في الأصل أرحب، ومجالات اشتغالهم أوسع وأكثر تنوعا، مما يعطيهم فرصا معقولة، للانسحاب المدروس، والحفاظ على الوجود، بترسيخ الذات في مجالات اشتغال أخرى، إلا أن الأهداف التأسيسية، وما يتصل بها من مجالات اشتغال، دعوية وتحررية واجتماعية، ظلت تذوي في الخلفية، لصالح السياسي.
إن أزمة المسارات، واختناق مجالات الاشتغال، ناجمة عن قصورين متصلين، فكري، وتنظيمي، وحتى لا تخرج الحركة الإسلامية، بصيغها الراهنة، من التاريخ، فإنّ عليها التحرر من جملة الأوهام، التي كرستها الصنمية، وإعادة البحث فيما يجبر هذين القصورين.
لا يقلّل هذا من شأن السياسي، ومركزيته في عملية التغيير والإصلاح، بيد أن السياسي ينبغي أن يكون خادما للمنطلقات التأسيسية، غير مهيمن على الخطوط الأخرى، التي يفترض أن تكون أكثر تنوعا وسعة منه، ولا يشترط فيها الاتصال التنظيمي، فلا يلزم من كل داعية، وطالب علم شرعي، ومصلح اجتماعي، أن يتصل عضويّا بالمعنى التنظيمي، بحزب سياسيّ بعينه، على النحو الذي يُتبِع مجالات العمل كلها لضرورات السياسي، ويعيد تكييف حتى المقولة الدينية مع تلك الضرورات وإكراهات الواقع.
تُلاحَظ عصبية الوسيلة، بشقيها، الوسيلة نفسها، والقيادة التي اختارتها، في كيفيات المراجعة للمسارات بعد ثبوت فشلها، إذ تُستدعى المبررات الأولية الدافعة نحو المسار، للدفاع عن المسار بعد فشله، الأمر الذي يعني، أنه لا شيء لدى صناع المسار لقوله، كما يعني تصنيم الوسائل من جهة أخرى، فما كان وجيها في لحظته، كونه وجهة نظر تُطرح للتداول قبل المسار، لن يملك الوجاهة نفسها بعدما أثبتت التجربة العملية خطأه، وهو ما يستدعي البحث في المسار برمته، أو في الأداء أثناءه، لا السؤال عن البديل، إذ هو بوصفه بديلا ثبت فشله، ولا التذرع بحتمية الانقلاب أو الإفشال من ممسكي خيوط القوّة في المعادلة السياسية، فإن كانت الحتمية معلومة سلفا، فإن المسار المفضي إليها عبث، فإن عُلِمت لاحقا، ينبغي العدول عنها إلى مسارات أخرى.
وبالرغم من أنّ تصنيم الوسيلة في صورتها التنظيمية، أو في الخيارات السياسية المعتادة، سمة حزبية عامة؛ ما تلبث الأحزاب أن ترتكس فيها، فإنّ ثمّة معطيات جوهرية في البنى الإسلامية الحركية، تفضي بها إلى هذا الضَرْب من الصنمية، من أهمها المماهاة، ولو بلسان الحال، وبمنطق التفكير الجمعي، بين الجماعة والإسلام، فتصير الجماعة في الوعي الباطن، والإسلام، شيئا واحدا، مما يعني تصنيم الجماعة مبكرا، وتصير مخالفتها، تساقطا على طريق الدعوة، ونقدها أمرا مريبا، والأمثلة على هذا لا تحصى، وبما أن قيادة الجماعة، هي قيادة الإسلام، أي وارثة النبوّة، فإنّ نقدها نقد للإسلام، فضلا عن كونه نقدا للجماعة التي اختُزِلت في القيادة، فإن لم يكن الأمر كذلك؛ ففي أقل الأحوال، وَهْمُ فرادة الجماعة واستثنائيتها وعبقريتها!
لا يمكن تجاوز طبقات الصنمية هذه إلا بنشوء صفّ ثانٍ، لديه وظيفة أخرى سوى تبجيل القيادة، التي تُزْمِن في مواقعها، ويا للطرافة، باسم الشورى، أو الديمقراطية الداخلية، بالرغم من أنها قد تكون بدأت شابّة.
هذا النمط من الإدارة، يجعل البدائل التنظيمية مستصعية، ليس فقط لأن أدوات التداول يجري تجييرها بما يخدم القيادة المزمنة، وهو أمر تزداد إمكانيته في الظروف الأمنية المغلقة، وتزايد الشعور بالخطر، أو حرج اللحظة وحساسيتها، ولكن أيضا لأنّ الوظيفة الوحيدة التي مُنحت للصف الثاني هي الدفاع عن القيادة، وصد الهجمات عنها، وتنفيذ الأوامر، لا المشاركة النقدية في اتخاذ القرارات ومراجعة المسارات، ويمكن للقيادة دائما حماية نفسها، بقولها إنها تعلم ما لا يعلمه أحد دونها!
إن أزمة المسارات، واختناق مجالات الاشتغال، ناجمة عن قصورين متصلين، فكري، وتنظيمي، وحتى لا تخرج الحركة الإسلامية، بصيغها الراهنة، من التاريخ، فإنّ عليها التحرر من جملة الأوهام، التي كرستها الصنمية، وإعادة البحث فيما يجبر هذين القصورين.