هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كأنها هلاوس اسم: تائهون، لا نزال، فى "مجرة جوتنبرج". ظلت الجملة تردد بإيقاع متصاعد في ذهني بينما أواصل تقليب صور وأوراق ترجع إلى شتاء عام 2017، واستعيد ذلك المشهد الذي جرى فى رحاب متحف محمود مختار بالقاهرة، حيث الصورة تكشف عن الكثير: جيوفاني بيلزوني عملاق قوى، مقدام، يركل الباب بقدمه اليسرى؛ ليطيح به، شاهرا مسدسين، مفزعا سبعة رجال جلوس.
هيئة الرجال قد تشي بأنهم: مصريون، عرب، مسلمون، وكأن هؤلاء ما زالوا تائهين، والتيه طال لأكثر من قرنين.
المشهد المستعاد يتركز على صفحات قصة مصورة عنوانها "رحلة في مصر والنوبة لجيوفاني بيلزوني"، برسوم: لوسي كاستيل، وسيناريو: جريجوري جاري ونيكول أوجيريو، وهى قصة مأخوذة عن مذكرات مستكشف الآثار الإيطالي جيوفاني بيلزوني (1778- 1823) الذي زار مصر واكتشف عدة تماثيل ومعابد شهيرة، وهو على الرغم من أنه في علم المصريات ليس بشهرة جون فرانسوا شامبليون (1790 - 1832)، العالم الفرنسي الذي فك رموز اللغة المصرية القديمة بعد استعانته بحجر رشيد الذي كان قد اُكتشف أثناء الحملة الفرنسية على مصر، لكنه حاز على تقدير عالم آثار آخر شهير، بدوره، هو الإنجليزي هوارد كارتر (1874 - 1939)، مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، إذ اعتبر( كارتر) أن بيلزوني "واحد من أبرز الرجال في تاريخ علم الآثار بأكمله".
ما استدعى "مجرة جوتنبرج"؛ وهو عنوان كتاب مارشال ماكلوهان (1911- 1980)، الفيلسوف وعالم اللغة والاجتماع الكندى، أن الفكرة الرئيسية فى الكتاب؛ والتى طورها بعد ذلك ماكلوهان، أن كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة آنذاك على نطاق واسع.
فهو مثلاً، يُطلق على الفترة من القرن الثامن عشر إلى العشرين عصر الطباعة، ففي ذلك الوقت كانت الطباعة الوسيلة الرئيسية لنقل المعرفة بين الناس. مستخلصا أن الطباعة شجعت على الفردية والنزعات القومية، والديمقراطية، والنزوع إلى الخصوصية، والتخصص في العمل، والتمييز بين العمل ووقت الفراغ.
هذه بعض سمات الحداثة الأوروبية التى اقتحمتنا اقتحاما لكننا عجزنا عن استضافتها ورعايتها وظلت "مجهضة"، غير منجزة، لا شك طبعا أن المراكز الحداثية - الرأسمالية أعاقت مشروع "حداثتنا" فى مختلف تجلياته، منذ محمد علي وحتى الآن، لكن يبدو أن سمات ذاتية كانت أكثر فاعلية فى الفاشل البادى بجلاء.
ربما لا ضرورة للحديث عن جوتنبرج، إلا من زاوية واحدة، فالمخترع الألمانى يوهان جوتنبرج (1398- 1468) الذى قام في سنة 1447 بتطوير قوالب الحروف التي توضع بجوار بعضها البعض ثم يوضع فوقها الورق ثم يضغط عليه فتكون المطبوعة، لم يكن أول من اخترع ذلك الشيء المدهش، فقد سبقه الكوريون والصينيون بمائتى سنة على الأقل، لكن التطوير والانتشار كان معه بلا حدود.
حداثتنا ما زالت "مجهضة"، إذا، وبينما المراكز الحداثية فى العالم قد تجاوزت الحداثة من عقود، فبحسب ماكلوهان فإن عصر الإلكترونيات قد حلّ محل عصر الطباعة. فالوسائل الإلكترونية تجعل الاتصال سريعًا، لدرجة أن الشعوب ـ على اختلاف مواقعها في العالم ـ تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين.
والنتيجة كما يرى أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، ونمو مجتمع عالمي جديد، وها نحن إذا لم نفلح في إنجاز مهام الحداثة، تائهون في "مجرة جوتنبرج" مجبرون بالقوة للدخول إلى عصر "القرية الكونية"، وهنا تكمن دلالات ومفارقات "رحلة في مصر والنوبة لجيوفاني بيلزوني"
يبدو بيلزونى عملاق، وهو فى تكوينه هذا، يهيمن هيمنة مطلقة على كل الرسومات التى تجمعه بوالي مصر، محمد علي، الذى يظهر قصير ممتلئ بطيء، بينما الإيطالي، الذى كان لاعب سرك محترفا، نشيط مقدام، فى الصور يبدو العاملون المصريون مطابقين لصور عبيد مسخرين، يحفرون، يجرون التماثيل العملاقة، ويحملونها على المراكب لتعبر البحر وتصل إلى لندن، بيلزونى، فى القصة المصورة مغامر عظيم، وهو في كتب الآثار عالم كبير للغاية، لكنه كان لص آثار نهب كنوز المصريين، في غفلة وعدم تقدير من الوالى الطموح.
حتى اللحظة ما زال علم الآثار المصرية "المصريات" نتاج وتخصص غربي بحت، وحتى اللحظة مازالنا لا نعرف كيف نصون تراثنا، لملمت الحداثة أوراقها بينما نحن ما زلنا خاضعين للامتحان، وجدت علينا مناهج وأساليب بعدها.
اقرأ أيضا : رغم كل هذا.. حلمي ما زال حيا
يبدو فن القصص المصورة "الكوميكس" نتاج ما بعد الحداثة، يُطلق عليه؛ تجاوزا، الفن التاسع- باعتبار التلفزيون؛ تجاوزا، أيضا، هو الثامن، تاليا فى الظهور، وطاغيا فى التأثير على: العمارة، النحت، الرسم، الرقص، الموسيقى، الشعر، السينما-، وهو بحسب ما جاء فى كتاب "فهم الكومكس" للكاتب وفنان القصص المصورة الأمريكى "سكوت مكلاود"، فن يجمع بين سمات عدة فنون، فبما أن "الكوميكس" عمل وضع فى وسط ورقي مثل الكتاب لكن يحتوى على رسومات تنتج تاثيرا بتتابعها مثل السينما، ولأن كل هذا العمل موضوع في قالب ابداعى فهو فن مستقل بذاته.
لا مجال لتناول تاريخ "ألكوميكس" ومسار ظهوره وصعوده، لكن يمكن أن تكون هناك ضرورة للإشارة إلى أن بدايته كانت أوروبية فى نهايات القرن الثامن عشر، لكنه أضحى من عشرينيات القرن العشرين فنا راسخا، سماته الرئيسية "أمريكية"، من خلال الأبطال الخارقين للطبيعة الساعين للعدالة فى عالم مهدد دائما.
وإذ يشير "مكلاود" إلى أن القصص المصورة يتم تحديدها من خلال أولوية تسلسل الصور، يشدد على مفهوم "الإغلاق"، للإشارة إلى دور القارئ في إغلاق الفجوات السردية بين لوحات الرسوم المتحركة، وأن القصص المصورة تستخدم روايات غير خطية لأنها تعتمد على خيارات القراء وتفاعلهم. وهي سمات للفن الما بعد حداثي بالتأكيد.
مفارقات بيلزوني هى الآخرى دالة، فلاعب السيرك المحترف جاء إلى مصر باحثا عن فرصة عمل في مجال الري، وفشل في ذلك، لكنه أضحى مكتشفا عظيما لكنوز الحضارة المصرية القديمة، فى ذات الوقت الذى تتبعه حتى اللحظة تهمة "اللصوصية"، قادته "رغباته" إلى غرب أفريقيا، عازماً السفر إلى تمبكتو. وبعد رفض السماح له بالمرور عبر المغرب اختار طريق ساحل غينيا.
ووصل إلى مملكة بنين، إلا أنه أصيب بالزحار في قرية تسمى غواتو، وتوفي هناك. ووفقا للرحالة الشهير ريتشارد فرانسيس بيرتون فإنه قُتل وسُرق.