كما في كل سنة، تحمل الذكرى السنوية للانقلاب الفاشل في تركيا أسئلة ونقاشات عديدة، ذلك أن الخامس عشر من تموز/ يوليو 2016 كان حدثا فارقا واستثنائيا، حتى بمقارنته مع الانقلابات العسكرية السابقة.
ذلك أن المحاولة الانقلابية الفاشلة اختلفت عن الانقلابات العسكرية الأربعة - إضافة للفشل والنجاح - من حيث دمويتها، وتنفيذها من قبل مجموعة داخل المؤسسة العسكرية، ومشاركة الشعب بشكل مباشر في رفضها وإفشالها، وغير ذلك من العوامل.
كما أن الانقلاب الفاشل ترك آثارا عميقة في تركيا داخليا وخارجيا، وبات محطة يؤرخ بها لعدد من المتغيرات المهمة التي ساهم بها، مثل الانتقال للنظام الرئاسي، وانتهاج سياسة خارجية أكثر مبادرة، والانخراط في الأزمات الإقليمية، وزيادة الاعتماد على القوة الصلبة في السياسة الخارجية، والتركيز على مفهوم "تطهير" مؤسسات الدولة من "الكيان الموازي" أو القيادة المتنفذة لجماعة غولن.
الانقلاب الفاشل ترك آثارا عميقة في تركيا داخليا وخارجيا، وبات محطة يؤرخ بها لعدد من المتغيرات المهمة التي ساهم بها، مثل الانتقال للنظام الرئاسي، وانتهاج سياسة خارجية أكثر مبادرة، والانخراط في الأزمات الإقليمية، وزيادة الاعتماد على القوة الصلبة في السياسة الخارجية، والتركيز على مفهوم "تطهير" مؤسسات الدولة من "الكيان الموازي
هذا العامل الأخير، أي مرور خمس سنوات كاملة على مكافحة التنظيم الموازي و"تطهير" أجهزة الدولة من أتباعه، يعيد طرح السؤال المتكرر سنويا: هل أوصدت تركيا بشكل نهائي وأبديّ الباب أمام الانقلابات العسكرية؟
بيد أن هذا العامل ليس السبب الوحيد لإعادة طرح السؤال بعد كل هذه السنين. ذلك أن السياسة الداخلية التركية، تشهد بين الحين والآخر جدلا يحيل إلى فكرة الانقلابات العسكرية مجددا، على سبيل الاحتمال أو حتى التهديد والتلميح.
ففي أيار/ مايو 2020، قالت رئيس فرع حزب الشعب الجمهوري المعارض في إسطنبول، جانان كافتانجي أوغلو؛ إن "نهاية أردوغان" باتت قريبة إما بانتخابات أو "بطريقة أخرى"، وهو تلميح لم يفهم منه إلا الانقلاب العسكري، على سبيل التهديد أو الرغبة والتمني.
وفي نيسان/ أبريل 2021، وقع 104 من ضباط البحرية التركية المتقاعدين بيانا يعقّب على بعض التطورات السياسية الداخلية، وفي مقدمتها مشروع قناة إسطنبول والجدل حول اتفاقية مونترو للمضائق، فُهِمَ على أنه تهديد بانقلاب عسكري لتشابهه مع انقلابات سابقة مهدت لها تصريحات وبيانات بهذا الشكل.
وفي خضم نقاش بيان الضباط المتقاعدين، قال نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الشعب الجمهوري أنجين ألتاي؛ إنه لا يريد أن تكون "نهاية أردوغان مشابهة لنهاية عدنان مندريس"، وهو رئيس الوزراء المنقلب عليه في 1960، الذي أعدم بعد ذلك مع اثنين من وزراء حكومته.
يمكن القول إن فشل المحاولة الانقلابية في 15 تموز/ يوليو 2016 قد صعّب المهمة بشكل كبير أمام من قد يفكر مستقبلا بانقلاب آخر، لأسباب عديدة
هذه الأحداث ومثيلاتها استفزت ردات فعل حادة من الرئاسة والحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وكذلك من شرائح شعبية ومجتمعية عديدة، وعُدَّتْ إشاراتٍ على استمرار عقلية الانقلاب لدى بعض أحزاب المعارضة، وكذلك في أوساط مؤيدي نُظم الوصاية السابقة على حكم العدالة والتنمية.
يعيدنا كل ذلك إذن إلى السؤال: هل باتت الانقلابات العسكرية في تركيا جزءا من الماضي؟
إن الإجابة على سؤال من هذا النوع، مركبة جدا وتحتاج جهدا في التفكيك، في دولة صبغت الانقلابات العسكرية حياتها السياسية لعقود طويلة، وتعدُّ ركنا رئيسا من تاريخها السياسي، بحيث يصعب الحديث عن تركيا دون الإشارة للانقلابات وتداعياتها.
يمكن القول إن فشل المحاولة الانقلابية في 15 تموز/ يوليو 2016 قد صعّب المهمة بشكل كبير أمام من قد يفكر مستقبلا بانقلاب آخر، لأسباب عديدة أهمها:
أولا، الكلفة. إن مشاركة الشعب بشكل مباشر في مواجهة الانقلابيين في الشارع، إضافة لمشاركة منتسبي بعض أجهزة الدولة (الشرطة - المخابرات - بعض فرق الجيش)، تعدُّ نقطة فارقة سيكون لها ما بعدها. يعني ذلك أن أي انقلاب عسكري محتمل في المستقبل، سيواجه بالطريقة نفسها وربما أشد، ما يعني أن كلفته البشرية والسياسية ستكون أعلى بكثير، وهو ما سيدفع للتفكير مئة مرة قبل التخطيط لانقلاب جديد، فضلا عن تنفيذه.
ثانيا، غياب المسوغات. كانت الانقلابات العسكرية السابقة تستغل أحداثا داخلية (مفتعلة أحيانا) لتبرير تدخلها في الحياة السياسية، انقلابا صريحا أو غير مباشر بالضغط على الحكومة للاستقالة، مثل الأزمات الاقتصادية أو الاحتراب الداخلي أو الانسداد السياسي. وهي مسوّغات غير موجودة في واقع تركيا اليوم الذي يتميز باستقرار سياسي قلّ نظيره منذ زهاء عقدين، رغم الوضع الاقتصادي المتراجع مؤخرا.
ثالثا، الإصلاحات. عملت تركيا في عهد العدالة والتنمية على عدة إصلاحات تتعلق بالمؤسسة العسكرية، وأهمها ثلاثة؛ أولها تعديل صلاحيات الجيش وحصرها بالدفاع عن البلاد ضد الأخطار الخارجية، وثانيها تعديل بنية مجلس الأمن القومي الذي كان أداة الجيش للضغط على الحكومة ليصبح ذا أغلبية مدنية (حكومية)، وجعل قراراته بمنزلة توصيات غير ملزمة للحكومة، والثالثة إعادة هيكلة مجلس الشورى العسكري الأعلى - المختص بالترقيات والتقاعد وغير ذلك في الجيش – ليصبح هو أيضا ذا أغلبية مدنية. وفي المحصلة، نزعت من المؤسسة العسكرية أي مسوغات "دستورية" للتدخل في السياسة الداخلية للبلاد، وطوِّعت بشكل كبير لقرار القيادة السياسية المنتخبة من الشعب، لا العكس كما ساد لعقود.
لكن، في المقابل، من الصعب القول إن باب الانقلابات العسكرية قد أوصد بشكل كامل ونهائي في مستقبل تركيا، لثلاثة أسباب رئيسة على أقل تقدير:
من الصعب القول إن باب الانقلابات العسكرية قد أوصد بشكل كامل ونهائي في مستقبل تركيا، لثلاثة أسباب رئيسة على أقل تقدير
الأول، عقيدة الجيش. بنيت المؤسسة العسكرية التركية على أنها مؤسِّسة الجمهورية والمدافع عن أسسها ولا سيما العلمانية، ما أسس لحالة من الوصائية العسكرية على الحياة السياسية في البلاد. وقد قطعت تركيا في السنوات الأخيرة شوطا مهما في تصحيح ذلك، والتأسيس لعملية مصالحة بينها وبين دين الشعب وثقافته. لكن من المفهوم أن هذه الثقافة التي سادت لعشرات السنين وتعمقت لتصبح عقيدة راسخة في الجيش، من الصعب تغييرها بشكل جذري وكامل في 20 سنة أو أقل. ولعل ذلك من أسباب استمرار بعض المؤشرات التي تذكر بـ"تركيا القديمة"، مثل التهديد بالانقلابات أو التخطيط لها أو بيان الضباط المتقاعدين المشار إليه آنفا على سبيل المثال.
الثاني، مكافحة الكيان الموازي. رغم سنوات خمس من هذه العملية، ما زالت التصريحات الرسمية للحكومة تشير إلى أن نسبة النجاح في هذه العملية ليست مرتفعة جدا، فضلا عن أن تكون قد نجحت بالكامل. في المقابل، يمكن القول إن الرهان الخارجي على جماعة غولن ما زال قائما بدرجة أو بأخرى، ولعل أهم قرائن ذلك استمرار مماطلة الولايات المتحدة - التي يقيم غولن نفسه فيها ويدير على أراضيها إمبراطوريته - في التعاون مع أنقرة في مجرد التحقيق معه، فضلا عن تسليمه.
الثالث، عودة الكماليين. إن الفراغ الذي تركه ضباط الكيان الموازي في المؤسسة العسكرية ملأه – خلال عملية "التطهير" - ضباط من التيار الكمالي وآخرون من التيار القومي. والأول تحديدا هو من خرجت من تحت عباءته الانقلابات العسكرية الأربعة السابقة، ومن ثم لا يمكن القول إن الحكومة قد أحكمت سيطرتها تماما على المؤسسة العسكرية.
في الخلاصة، ما زال الانقلاب الفاشل في 2016 محطة فارقة في تاريخ تركيا الحديث، ولعل أحد أهم أسباب ذلك أنه صعّب إلى حد كبير حدوث انقلاب جديد في المستقبل وضيّق الهوامش على من قد يفكر بذلك بشكل ملحوظ. إلا أن الجزم بعدم إمكانية حدوث ذلك أمر متعذر في العموم؛ لأن الثابت الوحيد في السياسة هو التغيير. بيد أن مما يساعد على الحيلولة دون ذلك في المستقبل، ترسيخُ الثقافة الرافضة للانقلابات واعتماد صندوق الانتخابات سبيلاً وحيداً للتغيير، وتمتين الوحدة الداخلية، ومعالجة الأزمات، ومنع أي أزمات جديدة، وتهدئة حالة الاستقطاب الداخلي القائمة.