مقالات مختارة

من وحي الحرب على غزة: العالم قرية تختنق!

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

مرة أخرى تأتي الحرب الجديدة على غزة لتكّذب الذين آمنوا بأن العالم أصبح قرية صغيرة والمعلومة فيه متاحة للجميع رغم أنف الجميع، وتذكّرهم بأن قناعاتهم في حاجة إلى إعادة نظر.
يجب أن تكون أحمق لتصدّق أن وسائط التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد جعلت العالم أفضل وأكثر حرية.


وقائع سريعة من وحي الحدث:


ـ لاعب الكرة الدولي الجزائري رياض محرز غرَّد في بداية التأزم في القدس متعاطفا مع الفلسطينيين من سكان حي الشيخ جرّاح، فعرَّض مستقبله المهني للخطر وجلب إليه انتقادات كبيرة. سيُحفظ موقفه في الأرشيف وقد يُستعمل يوما ما ضده.


ـ لاعب نادي أرسنال الإنكليزي، المصري محمد النني، أبدى تعاطفا مع غزة عندما بدأت الحرب، فاتُهم بمعاداة اليهود واحتج الممولون وشركات الرعاية لدى النادي ووضعوه في مشكلات كبيرة.
ـ صفحة على فيسبوك ظهرت في أثناء حرب الأيام الماضية لدعم الجيش الإسرائيلي ضمَّت إليها ملايين المشتركين دون علمهم ودون استشارتهم. أكيد ما كانت الصفحة لتضيفهم دون علم أو تواطؤ فيسبوك نفسها.


ـ موقع يوتيوب ضيَّق الدخول إلى حساب البث المباشر لقناة الجزيرة بعد أن بلغت نسبة المشاهدة فيه لتغطية الحرب على غزة أرقاما فاقت كل التوقعات. لا يمكن، بطبيعة الحال، فصل لجوء القائمين على يوتيوب إلى التضييق على الحساب ونسبة المشاهدة المرتفعة.


ـ وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، وفي ذروة الحرب على غزة، عقد اجتماعا عن بُعد مع قادة شركات التواصل الاجتماعي، ومنها فيسبوك وتيك توك، ليحذّرهم من أن شركاتهم تتساهل مع خطاب "المتطرفين والإرهابيين" المحرِّض على إسرائيل.


الحاضرون وعدوا بفعل ما بوسعهم في اتجاه ما طلب غانتس وأبلغوه تعازيهم للعائلات الإسرائيلية التي فقدت بعض أفرادها بصواريخ غزة! أستطيع أن أسوق أمثلة أخرى من وحي هذه الحرب وقبلها، لكن المساحة لا تسمح.


من السهل أن يلحظ المرء على ضوء هذه الأمثلة وغيرها أن العالم يعيش تناقضا فريدا من نوعه: حرية نشر المعلومة متاحة بشكل غير مسبوق، لكنها هشّة وقابلة للحظر بسهولة لا مثيل لها. الحظر التقني يتوقف على نقرة على لوحة مفاتيح كمبيوتر وانتهى الأمر. هناك حظر آخر، أخطر، يُمارَس عبر الضغط على الناس وتهديدهم في مصائرهم وقوتهم، فيُجبَرون على التوقف عن التعبير عن آرائهم.
العالم قرية صغيرة؟ نعم. لكن قرية مقيّدة وتختنق. من دون اتفاق مقصود، التقت مصلحة الطغاة في الدول المتخلفة وأنظمة الحكم الشمولية مع خطط قادة العالم المتطور وأهداف أصحاب المال وتماسيح التجارة العالمية وأرباب الحروب.


صحيح أن اللوبيات الضاغطة لا تسيطر كلّية على كل شيء كل الوقت، بدليل أن بعض لاعبي نادي لستر سيتي حملوا العلم الفلسطيني بعد مباراة نهائي الكأس مع تشلسي السبت قبل الماضي، ولاعبين آخرين رفعوا صوتهم دعما لفلسطين، مثل الدولي الفرنسي بول بوغبا. لكن الضغط عليهم وعلى غيرهم لن يتوقف مهما تغيّر شكله أو أعطى الانطباع بأنه غير موجود. هي معركة طويلة النفَس على مَن يقرر خوضها أن يستعد لها.


لا أحد حر اليوم. ولا حرية في نشر حتى أبسط المعلومات والآراء وأكثرها تداولا. تغرّد رأيا عن الشيشان تغضب روسيا وتسعى لجعلك تدفع ثمن معيَّنا. تتحدث عن المسلمين الأيغور وهونغ كونغ تغضب الصين وتدفّعك الثمن يوما ما (لاعب الكرة التركي مسعود أوزيل يعرف قليلا في هذا الشأن منذ جاهر بدعمه للمسلمين الأويغور العام الماضي فتخلى عنه أرسنال بضغط من الصين، ويُعتقد أن رحيله من النادي كان بسبب ذلك). تنتقد الجيش الإسرائيلي فينالك غضب إسرائيل ونصف الكرة الأرضية تتهمك بالعنصرية وكراهية اليهود. أمريكا وفرنسا وبريطانيا ودول العالم "المتحضر" الآخر لديها منطقها وحججها في التضييق على المعلومة ومتداوليها، وهي تعمل بلا هوادة وعلى مدار الساعة، منفردة وشراكة، للسيطرة على حركة المعلومة وحرمان الناس منها. كل شيء مقبول ولا أحد يخجل مما يفعل.


الجيوش الإلكترونية التي تخوض حرب المعلومة في الفضاء الرقمي في الغرب وساحات الحروب لا تقل أهمية عن الجيوش التقليدية من حيث الموارد والقدرات المادية والبشرية والتدريب والجهد المبذول وغير ذلك. وستحذو حذوها حكومات العالم المتخلف عندما تعي جيدا أهمية الفضاء الرقمي وخطورته على وجودها. بعضها بدأت وأخرى ستبدأ. العالم قرية صغيرة؟ نعم. لكن قرية مقيّدة وتختنق.


من دون اتفاق مقصود، التقت مصلحة الطغاة في الدول المتخلفة وأنظمة الحكم الشمولية مع خطط قادة العالم المتطور وأهداف أصحاب المال وتماسيح التجارة العالمية وأرباب الحروب. اتفقوا جميعا على أن المعلومة والرأي الحر خطر عليهم، والحرية قيمة لا تناسب مصالحهم وأعمالهم. لهذا يعملون المستحيل ليكونوا أكثر تحكما في هذا العالم، وأكثر حرية في التصرف في البشرية. لحسن حظهم أنه بقدر ما أصبحت المعلومة متاحة، أصبح حجبها ومحاصرة أصحابها أسهل.


أصبح من السهل جدًا على أي جهة أو مؤسسة أن تمنع شخصا من التعبير علنا عن آرائه وأفكاره، وأن تحاسبه حتى على ماضٍ بعيد. يكفي أن يكون موظفا لديها فتقول إن رأيه يؤثر على حيادها وينتهك لوائحها (عالم الصحافيين يتداول هذه الأيام قصة صحافية أسوشيتد برس، الأمريكية إيميلي وايلدر، التي طُردت من عملها في مكتب غزة بحجة أنها خلال دراستها الجامعية كانت ناشطة لصالح الفلسطينيين، ما اعتُبر انتهاكا للوائح المؤسسة. طُردت وايلدر بعد خمسة أيام من قصف الجيش الإسرائيلي للبرج الذي يضم مكاتب الوكالة ومؤسسات إعلامية أخرى في غزة، وبعد ثلاثة أسابيع من استلامها وظيفتها).


وببعض الجرأة تستطيع أي جهة الاعتراف بأن رأي موظفها يؤثر سلبا على أعمالها وأرباحها. السياسيون ممنوعون من التعبير حفاظا على أسرار الدولة ومصالحها. الرياضيون ممنوعون حفاظا على مصالح النوادي. المشاهير لا يغامرون خوفا على شهرتهم وأرباحهم.


رغم كل هذا لا يمكن إنكار أن العالم تغيّر وأنه لن يستطيع العودة إلى الوراء حتى لو أراد. الواقع الجديد أتاح تداول المعلومة لكنه سهّل التحكم في مستعملي تكنولوجيا التواصل وتصنيفهم والتعرف على أذواقهم وأهوائهم وتوجيهها. أصبح البشر مجرد سلعة وأرقام تعبث بها ضباع المال المتحكمة في مصير العالم.

0
التعليقات (0)