مـريــم

وقفت مريم تلوِّح بيدها من نافذة الغرفة لابنها قبل ذهابه إلى المدرسة، لاحظت حينها أنّ يدها ترتجف على الزّجاج وشعرت بحلقها يجفّ وكأنّها ابتلعت كومةً من القطن دفعةً واحدة. طال وقوفها على النّافذة وهي تتأمّل المخيّم وتسرح في شبكات الكهرباء المتدلّية وتداخلها، وكأنّها كبكوب صوفٍ متشابكٍ تركته مخالب قطّة للتّو.

لم تكن الأمور قد تعقّدت بعد، كانت أيّاماً عاديّةً باستثناء الأحداث الأخيرة التي شهدها المخيّم، وقد تخلّلتها مناوشات بين جماعات المخدّرات المسلّحة تحت قناع انتمائها لفصيلٍ أو لآخر.

سارعت مريم لإنهاء أعمالها المنزليّة كي تباشر بتنظيف درج المبنى الذي اتّفقت مع صاحبه، ولحظة خروجها من المنزل صادفت زوجها يعود أدراجه وقد تكفّلت تعابير وجهه بإخبارها أنّه لم يجد عملاً حتى الآن. ربّتت على كتفه وزفرت ما بقي في صدرها من أمل، ثمّ تمتمت "الله بيدبّرها"، وأكملت سيرها وهي تجرّ خيبتها بثِقل.

كانت تعمل بكلّ قوّتها وبدت كأنّها تنظّف الدّرج بدموعها المختلطة مع حبّات العرَق، مستعينةً بالقليلِ من ماء الإبريق.

سمعت عندها صوت إطلاق نار، فتجمّدت بأرضها غير متأكدةً من أنّ ما سمعته كان حقيقيّاً أو أنّ عقلها بدأ بخلط الأفكار وإطلاقها دون وعي، لكنّ صوت الرّصاص بدأ يئزّ ويتعالى بشكلٍ جنونيٍّ، فقفزت على الفور صورة ابنها الذي أرسلته صباحاً إلى المدرسة.

لم تشعر بنفسها إلا بعد أن تحرّكت قدماها وكأنها في "ماراثون"، ولم تتمنّ حينها إلا أن ينتهي ذلك الدّرج الذي أصبح يشبه السّرداب الدّائريّ الذي لا نهاية له، وما إن وصلت الشّارع حتّى شاهدت الرّعب في وجوه الأهل أمثالها وهم يهرعون إلى المدارس لاحتضان أبنائهم، متجاهلين الحُفر الصّغيرة والكبيرة التي قضمت نصف مساحة الشّارع. وعلى الرّغم من تهدئات مدراء المدارس وتأكيداتهم بأنّ الأطفال بخير طالما هم في حرم المدرسة، لكنّ الرّعب الذي التهم الأهل منعهم من الهدوء إلا برؤية أبنائهم واسترجاعهم إلى بيوتهم بأيّة طريقة.

اختارت مريم طريقاً مختلفة توصل إلى الباب الخلفيّ للمدرسة، وانقضّت على الباب تطرقه وكأنّه السبب في كلّ ما جرى، وبعد لحظات فُتح الباب الصّغير، فركضت مريم بما بقي لها من عقلٍ تبحث عن ابنها بين الأولاد، وحين وجدته رمت بنفسها في حضنه وكأنّها ابنته الخائفة تهرع إليه كي تشعر بالأمان.

وعلى الرّغم من محاولات بعض الأساتذة لإقناعها بالبقاء لحين عودة الهدوء، أصرّت مريم على العودة إلى المنزل مع ابنها وركضت به وكأنها تهرب من سجنٍ يكاد يُطبق عليهما. وعند أوّل خطوة لهما خارج المدرسة لمحت زوجها يهرع إلى الباب الرّئيسيّ للمدرسة تحت صوت الرّصاص الذي لم يتوقّف منذ الطّلقة الأولى. حاولت أن تلحق به لتطمئنه، لكنّ رصاصةً طائشةً وجدت طريقاً لها نحو رأس مريم، فاستقرّت به مرتاحةً هناك.

سقطت مريم، وسقط معها ابنها وكلّ أحلامها وآلامها وآمالها معها. سقطت وهي تشدّ على يد ابنها كي تشعر بالأمان، الأمان الذي لم يعد يشعر به أحدٌ بعدها.

* لاجئة فلسطينية في لبنان