هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من أهمّ الملاحظات التي يمكن استخلاصُها عبر معاينة الأسماء المرشحة على قوائم الأحزاب السياسية، وفي المقدمة منها التشكيلات العريقة، هو تواضع فرسانها قياسًا بمعايير النخبة التي يُفترض أن تتقدم لتمثيل الشعب برلمانيا، باعتبار المؤسسة التشريعية هي أعلى هيئة نيابيّة في المجالس المنتخبة.
قد توجد حالاتٌ استثنائية لا يمكن القياس عليها، لكن بشكل عامّ يغلب على مرشحي الأحزاب الطابعُ النضالي أكثر من أي صفة أخرى، أي إن استحقاقهم لثقة التمثيل مكتسبة من مواقعهم التنظيمية داخل هياكل المؤسسة الحزبية، وليس لكفاءاتٍ فنيّة معتبرة تؤهِّلهم للوظيفة البرلمانية بما تستوجبه من قدرات متقدِّمة على ممارسة التشريع والرقابة في مستوى أداء أجهزة الدولة وإدارتها للشأن العامّ.
وبشيء من التفصيل، فإن عموم المتسابقين من القوائم الحزبية ينتمون إلى أسلاك التعليم العامّ والإدارة المحلية أو الهندسة والأعمال الحرة البسيطة وما شابهها، بينما يشكل حضور نخبة التعليم العالي في مختلف التخصصات، خاصة ذات الصلة بالعلوم الاجتماعية والقانونية والإنسانية مثلا، حالات استثنائية.
هذا الأمر يؤشّر إلى مسألة سلبيّة جدا، تتعلّق بهجر الكفاءات النخبوية للفعل السياسي الحزبي لاعتبارات كثيرة، ليبقى الحزب منغلقا على دائرة ضيقة من المتشبِّثين بالمناصب التنظيمية التي تملك وحدها سلطة القرار، فتخصّ نفسها بكل المواقع والمغانم تحت شعار “نحن أولى بها”.
طبعا هذا لا يعني أبدا أنّ كل حاملي الشهادات العليا من ذوي المسارات العلمية المتقدمة يصلحون للنيابة البرلمانية، ولا أنّ كلّ منْ هُم دونهم غير مؤهَّلين لها، لكن المفارقة أصبحت لافتة في انحسار الفئة الأولى مقابل تضخم الشريحة الثانية، بما أفرغ الهياكل الحزبية من عقول الفكر والتنظير والتحليل والاستشراف، لصالح سواعد التنفيذ الميداني، وفي هذه الحالة نكون أمام وضع اختلال تبرز تجلياته في الاستحقاقات الكبرى.
من يتابع مسار الأحزاب في الجزائر، يدرك تماما أنّ مشكلتها لا تكمن فقط في العجز عن استقطاب تلك العقول المتميزة، بل إنها تفقدها دوريّا مع كل محطة سياسية أو تنظيمية، بمعنى أنّ تلك النماذج تَوفَّر الكثير منها داخل الأحزاب قبل سنوات، قبل أن تؤثر الانكفاء على النفس، وحتّى الانسحاب النهائي في حالات أخرى.
هذا الواقع أدّى إلى قلب الهرم في الجزائر، حيث أضحى المجتمع من خلال نخبه المتنوعة أقوى من الأحزاب على المستويات الفرديّة، التي تظلّ متحلّلة تنظيميّا أو منشغلة بمسارات ذاتية مهنية أو اجتماعية عن الانتماء الحزبي، دون رفضها للفعل السياسي بمفهومه العامّ، بدليل الاندماج الجماعي للنخب الجزائرية في التعبير عن الرأي ومشاركة الجزائريين أحلامهم في التغيير بعد اندلاع حراك 22 شباط/ فبراير2019، مثلما تعكسه ظاهرة القوائم الحرة كذلك؛ إذ إنّ الكثير من روادها غاضبون من الإقصاء والتجاهل داخل أحزابهم.
وحتّى لا يتسرّع المتحزبون فيتَّهموننا بإدانتهم وتحميلهم المسؤولية الكاملة، يجب التأكيد أنّ المتسبب الرئيس في إفراز هذا المشهد السلبي، هو النظام السياسي الذي مارس التصحير الممنهج طيلة عقود على الساحة الوطنية، حتى تخلو للانتهازيين، ما دفع النخبَ النزيهة إلى الانسحاب من مسرحية “التمثيل الديمقراطيّ”، لقناعتها بانسداد الأفُق السياسي وعدم الجدوى من العملية الانتخابية الصوريّة، وأحيانا حتّى فقدانها للإيمان بفاعلية المشروع التغييري في ظل معطيات الواقع.
لكن ما تُعاتَب عليه الأحزاب هو تفريطها في نخبها النوعيّة، بفعل تغوّل صقور التنظيم وهيمنتهم على آليات الترشيح، الذي يخضع في الغالب لأدوات الكولسة والنفوذ وشراء الذمم، بعيدا عن التجرّد في الاحتكام إلى معايير الاختيار الأنسب وقيمه الأخلاقيّة إلا في حالات نادرة، ما يجعل الحظوة لهؤلاء المسؤولين في الهياكل على حساب مُنتمين آخرين يملكون المؤهِّلات النيابيّة، دون حيازتهم سلطة التأثير في صناعة القرار.
هذا الواقع يدفع تلقائيّا إلى تصدّر رجال التنظيم صفوف المرشحين بالأحزاب على حساب النخب الكفؤة التي تبقى على هامش القرار المؤسسي أو خارج الحزب بالكامل، وهنا نضيف إشكالية أخرى لتفسير عزوف النخب عن السباق البرلماني، تتعلق بالانغلاق الذي يكبّل التشكيلات السياسية في مثل هذه المحطات الانتخابية، حيث نجدها تعيش التناقض المطلق؛ إذ تفتح قوائمها لكل وُصوليّ غريب أو تغلقها في وجه كل قريب.
والمحصّلة، هي أن التصحير الممنهج والتغوّل التنظيمي والانغلاق الأناني، سيفرز برلمان مناضلين بأهليّة محدودة في أحسن الأحوال، دون إعفاء النخب المغيّبة من المسؤولية، لكننا سنعود إليها في عدد لاحق.
(عن صحيفة الشروق الجزائرية)