هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في لبنان ينتظرون منذ ستة أشهر وفي تونس منذ ثلاثة أشهر. الأوائل ينتظرون حكومة جديدة وفي تونس ينتظرون أن يتسلم 11 وزيرا جديدا مهامهم بعد أن وافق عليهم البرلمان، ولكن لا هؤلاء ظفروا بحكومتهم ولا هؤلاء بوزرائهم والسبب واحد، مع بعض الفروقات والتفاصيل هنا وهناك: رئيس الدولة.
لو تحدثت لأنصار عون في لبنان والمتحالفين معه عن هذا الوضع لقدّموا لك مرافعة كاملة عن وجاهة ما فعله الرئيس، ولو تحدثت مع أنصار سعيّد لقدموا لك هم أيضا مرافعتهم، لكن النتيجة واحدة في كلا البلدين: انتظار غير طبيعي عطّل السير الطبيعي للدولة وزاد من هشاشة تصديها لوضع اقتصادي مأزوم ووضع صحي خطير بسبب تفشي جائحة كورونا.
ومع أهمية ما يمكن أن يسوقه كل من أنصار عون وسعيّد من حجج، قوية أو واهنة، لتبرير موقفيهما إلا أن ذلك لا يخفي في النهاية أن العبرة بالنتائج والنتائج تقول أن ما جرى ويجري في لبنان وتونس هو حالة من الشلل لا يمكن لها إلا أن تزيد وضع البلدين سوءا على سوء بسبب عناد رجلين يظن كل منهما أنه ضمير البلد والأقدر على الاهتداء إلى الموقف الصحيح.
للدولة، أي دولة، نواميسها وقوانينها التي بدونها لا معنى لإطلاق كلمة الدولة على المؤسسات والهياكل القائمة في هذا البلد أو ذاك. وعندما يقال إن فلانا هو رجل دولة فالمقصود أساسا أن لهذا الرجل من الوعي والحصافة وسعة الأفق ما يجعله قادرا في لحظات فارقة معينة على أن يميز بين الأهواء الشخصية وبين مصلحة الدولة، وألا يكتفي بذلك بل له من الإرادة ما يجعله لا يتردد في أن يحسمها لفائدة الدولة حتى وإن أصابه هو شخصيا بعض الضرر أو بدا في صورة المتنازل أمام خصومه.
الحقيقة الواضحة إلى حد الآن أن لا ميشيل عون ولا قيس سعيّد يبدوان من هذه الطينة، مما ينذر بأن الأمور قد لا تتزحزح كثيرا في الفترة المقبلة اللهم إذا تعرّضا إلى ضغوط خارجية شديدة الوطأة لا قبل لهما بمواجهتها. وإن حصل ذلك، وهو ليس أكيدا في كل الأحوال، فقد يصبح «التنازل» الذي يقدمانه فاقدا لذلك المكسب الذي كانا يمكن أن يظفرا به لو فعلا ذلك من تلقاء نفسيهما وبمراعاة للمصلحة العليا للبلاد وليس خضوعا لعنصر خارجي يزيد من تبعية البلاد وارتهان قرارها. كما وجب ألا ننسى أن هناك في المقابل ضغوطا خارجية قد تكون تدفع بالرجلين لمزيد العناد والتمسك بموقفيهما وذلك لحسابات أخرى مناقضة للضغوط الأولى.
لقد عرفت فرنسا مثلا ثلاث تجارب عُرفت بــ «التساكن» أي أن يجد رئيس نفسه مجبرا على «السكن» في نفس «شقة الحُكم» مع رئيس حكومة ليس بينه وبينه وفاق ولا ينتميان إلى نفس الحزب. كان ذلك بين الرئيس فرانسوا ميتران (يسار) ورئيس حكومته جاك شيراك (يمين) من 1986 إلى 1988 ثم بين نفس الرئيس وإدوارد بلادير (يسار) من 1993 إلى 1995 وأخيرا من 1997 إلى 2002 بين شيراك، وقد صار رئيسا، وليونيل جوسبان (يسار) أي أن شيراك عايش التجربة مرتين من موقعين مختلفين.
خلاصة التجربة وقتها أنه رغم العثرات والحساسيات استطاعت هذه التجارب الثلاث أن تتقدم لأن حس الدولة وعلويتها وروح الجمهورية وسيادة القانون هو من حسمها بعيدا عن نوازع الأشخاص. للأسف ليس لدينا لا في لبنان ولا في تونس لا هذه الروح، التي تحتاج لعقود لتترسخ، ولا هذا المعدن من رجال السياسة. ميشيل عون عسكري قادته تجربة حكم متعثرة قصيرة كرئيس حكومة عسكرية شكلت في الدقائق الأخيرة من عهد الرئيس أمين الجميل في سبتمبر / أيلول 1988 قبل أن يفر إلى فرنسا ليعود منها رئيسا من جديد كما كان يريد دائما، مدعوما من حليفه «حزب الله». أما قيس سعيّد فلم يعرف عنه قبل ثورة 2011 أي نشاط لا سياسي ولا جمعياتي ولا غيره، كما لم يكن اسمه معروفا على الإطلاق في أي رأي أو نشاط داعم للديمقراطية أو مندد بالاستبداد في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. فجأة وجد الرجل نفسه معروفا بفضل ظهوره التلفزيوني، ثم مرشحا للرئاسة فرئيس، هكذا بكل بساطة ما زال البعض يحاول النبش في أسرارها.
عرفت تونس في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وضعا مماثلا فقد أقدم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي جاء به هو نفسه من المجهول، على تعديل وزاري لم يستحسنه الرئيس لكنه قبِل به ولم يعطّله، رغم مرارته الشخصية من الشاهد الذي قلب له ظهر المجن، ورغم تحريض البعض له في هذا الاتجاه. هذا التحريض الذي فضحه هو نفسه، قائلا وقتها إنه ليس هو من يمكن أن يفعل ذلك وأن مصلحة الدولة فوق كل اعتبار.
الطريف هنا أن قيس سعيّد، المواطن وأستاذ القانون الدستوري وقتها، أيّده في ذلك!!
(عن صحيفة القدس العربي)