قضايا وآراء

تاريخ المهزومين

جلال صبري
1300x600
1300x600
المواطن المصري والمشاهد المصري

بين شعوب لا تحب القراءة كثيراً وتتلقى معارفها منذ الأزل عبر السمع، تصبح الشاشة مصدر هاما ومؤثرا لتلقي المعلومات الصحيحة منها والمغلوطة. وقد أدرك النظام السياسي المصري هذه الحقيقة جيداً عبر عقود طويلة، فاستخدم الفنون كوسيلة شديدة التأثير في المشاهد المصري.

فالمواطن المصري في أغلب تاريخه هو في حقيقة الأمر مشاهد ومتلق، وفي خضم الثورة ظهر ما يسمى حزب الكنبة، تعبيراً عن فئة عريضة من الشعب أو قل هو الشعب بأكمله فيما عدا هؤلاء الذين قرروا النزول للميادين، اختاروا التلفزيون لمشاهدة الأحداث بديلاً عن المشاركة فيها، فتحولوا من مواطنين فاعلين إلى مشاهدين.

وقد أسهم النظام في تحويل المواطنين إلى متفرجين عبر سياسات منظمة لعبت بعقول المصريين فحرضتهم دوماً على الانتظار (نستنى مبارك يكمل مدته ونشوف هيحقق وعوده ولا لأ)، ومن ناحية دينية شجعت فضيلة الفقر والسلبية وانتظار الأجر والثواب في الآخرة، وتعطلت العملية التعليمية فتأخرت العقلية المصرية النقدية لمصلحة التلقي والحفظ والتلقين، فلم يعد المصري قادرا على تمييز الغث من السمين، وتحول إلى مجرد متلق للمعلومات التي يبثها إليه النظام ومجرد مردد لتلك الأقاويل.

وبعد تحويله إلى مجرد متلق خال من القدرة على النقد والتحليل، وتشجيعه على المشاهدة بدلاً من المشاركة، أصبح من السهل على أي نظام سياسي مصري أن يؤلف ما شاء من الأكاذيب ويعرضها على المشاهد المستعد دوماً للتصديق والمتجرد من سائر أسلحته العقلية والفكرية، وبذلك تحولت الدراما إلى سلاح لغسل الأدمغة وتزييف التاريخ.. ولكن هل حقاً التاريخ يمكن تزييفه؟

من يكتب التاريخ؟

يقول المثل الأفريقي: "إلى أن يكون للأسود مؤرخوها ستظل قصص الصيد تمجد الصيادين"، فما يجري في الحياة اليومية للشعوب والدول من حروب ومعارك ونجاحات وإخفاقات يصبح بمرور الوقت تاريخا وتراثا لتلك الشعوب. وهذا التاريخ تجب كتابته لكي يظل حاضراً في الوعي الجمعي للشعوب يوحد كلمتهم وينمي التآرز فيما بينهم، ولكن من يحق له كتابة التاريخ؟.. عبر عصور طويلة كانت كتابة التاريخ مهمة من يربض فوق كرسي السلطة. الحاكم هو من يحرض المؤرخين على كتابة التاريخ، ولما كان هؤلاء المؤرخون لا يتجرأون على مخالفة أمر الحاكم، يصبح الحاكم هو المؤرخ الحقيقي، بينما المؤرخ مجرد كاتب لما يمليه عليه الحاكم. وطالما الحاكم الفعلي هو الذي انتصر في المعركة التي أوصلته إلى كرسي السلطة، تصبح روايته هي الرواية الرسمية والحقيقية الوحيدة للتاريخ.

وفي مصر بدأت السيطرة على كتابة التاريخ مبكراً حين أنشأ محمد علي باشا مطبعة بولاق لطباعة الكتب التي تمجد حكمه واستبعد أي كتابات تعارضه، منها مثلاً كتاب الجبرتي "عجائب الآثار" لمعارضته للباشا الذي محى كل الروايات التي تفضح جرائمه، ووضع بدلاً منها رواية تاريخية وحيدة تقول إن محمد علي باني مصر الحديثة ومؤسس نهضتها الذي أنقذها من عبث المماليك.. وعلى خطى الباشا سار كل باشاوات مصر حتى يومنا هذا.. ولكن هل يستطيع السيسي في 2021 أن يعمل بمثل عمل محمد علي باشا في القرن التاسع عشر؟.. لحسن الحظ لا.

تطورت وسائل الاتصال والتكنولوجيا إلى حد جعل الاستبداد السياسي عاجزا عن السيطرة على مقاليد الأمور كما في الماضي، فلم تعد كتابة التاريخ محصورة بين دفتي الكتب التي يمكن حرقها أو وقف طباعتها أو مصادرتها، بل تحولت إلى صور ومقاطع تلفزيونية حية رقمية مسجلة إلى ما شاء الله لا يمكن محوها. فالتاريخ لم يعد مجموعة روايات تُنسى بمرور الوقت، بل أصبح وثائق حية باقية يمكن بضغطة زر الرجوع إليها في كل وقت وحين، وبذلك أصبح تزييف التاريخ الذي لا يزال النظام المصري مصراً على ارتكابه ليس فقط مجرد عبث لكنه حماقة لا تغتفر. ويزيد الأمر حماقة أن التاريخ الذي يسعى نظام السيسي تزييفه لا يزال حاضراً ومن عايشوه لا يزالون على قيد الحياة - كثير منهم في السجون أو في الخارج أو مقتولين - فكيف يمكن تزييف تاريخ رأيناه رأي العين بهذه الفجاجة وسوء الصنعة في الوقت نفسه؟

تاريخ الأكاذيب

وباستعراض بسيط لأشهر أكاذيب الدراما والسينما المصرية عبر التاريخ التي تحولت مع الوقت إلى حقائق بفضل الترويج لها تلفزيونياً ومنع الروايات التاريخية الأخرى من التداول، سنجد أنه في عقب انقلاب تموز/ يوليو 1952 روجت أكاذيب فجة لا تزال تعتبر حقيقة دامغة، مثل قضية الأسلحة الفاسدة التي أثبتت تحقيقات أجراها محمد نجيب عدم صحتها، ومثل أكذوبة انتصار مصر في العدوان الثلاثي في 1956، بينما في الحقيقة أنها كانت فضيحة عسكرية مدوية، وتزييف هزيمة حزيران/ يونيو المروعة إلى كلمة نكسة لتلافي الاعتراف بالهزيمة.

وإذا تابعنا السينما المصرية عبر نصف قرن مضى نجد أن الأنظمة السياسية المتعاقبة قد استخدمت السينما للمكايدة السياسية في العهود السابقة، فظهرت الأفلام التي تسيء لنظام عبد الناصر في عهد السادات (الكرنك واحنا بتوع الأتوبيس) وأساء مبارك لعهد السادات في عدد من الأفلام (البريء والمواطن مصري). وفي المقابل منعت تلك الأنظمة أي أفلام تقدم رواية تاريخية مختلفة لعصورهم أو تنتقد تسلطهم، فمنع جمال عبد الناصر فيلم المتمردون عام 1966 لإسقاطاته على قضايا المساواة والظلم ولم يتم عرضه إلا بعد النكسة، ومنع السادات فيلم زائر الفجر سنة 7319 لإسقاطاته السياسية على عصره ومساوئه، ومنع مبارك فيلم الغول سنة 8219 لإسقاطاته السياسية وتشجيعه على الثورة، بل إن مبارك منع فيلم حائط البطولات عام 9919 لأنه حين استعرض نصر أكتوبر لم يذكر سلاح الطيران والضربة الجوية، وهو ما خالف الرواية التاريخية الرسمية التي أرادها مبارك بأنه بضربته الجوية صاحب النصر الحقيقي والوحيد.

تاريخ المنتصر وتاريخ المهزومين

وبعد انقلاب 30 حزيران/ يونيو 2013 بدأ نظام السيسي خطى واسعة نحو إعادة صياغة تاريخ مصر، وذلك بطمس ثورة يناير 2011 لمصلحة "ثورة يونيو" 2013 وبلصق سائر التهم والاخفاقات المصرية لفترة الثورة وسنة حكم الرئيس مرسي، وبإعادة كتابة أحداث الثورة لتصوير النشطاء والإسلاميين باعتبارهم مجرمين دمويين أرادوا اختطاف مصر واغتيال حضارتها، فظهرت الأعمال الدرامية التي تعيد كتابة التاريخ برواية المنتصر، لكنها كانت مباشرة وسطحية وشديدة السوء بشكل أثار السخرية أكثر مما أثار الإعجاب.

ففي مسلسل "الاختيار 1" حاول النظام كتابة قصة بطولة وطنية للجيش المصري في حربه ضد الإرهاب، وبينما يكتب المنتصرون التاريخ لتمجيد انتصاراتهم، كتب نظام السيسي تاريخا يمجد هزيمة صفوة ضباطه وتصفيتهم على يد الإرهابيين. وحين تمكن من إثارة عواطف المصريين واللعب بمشاعرهم تقدم خطوة أوسع في الجزء الثاني، في محاولة لنقل التزييف من ساحة الحياة العسكرية إلى ساحة الحياة السياسية، وبينما لا منصة عن سيناء تروي حقيقة ما يحدث هناك في ظل تعتيم محكم، ظن السيسي أنه تمكن كتابة تاريخ واقعة مؤسفة حدثت في قلب العاصمة ولا يزال من عاصروها يعيشون حتى الآن أو على الأقل بعضهم، وأحيا دماء الشهداء لتبعث أحداث المأساة من جديد ويبدأ الجدال المجتمعي مرة أخرى بشأنها، فأوقع نفسه مرة أخرى في شرك أفعاله وعادت جريمته تلاحقه ما بقي حياً.

وتظهر شهادات متجددة على وسائل التواصل تحاول إعادة حكي أحداث رابعة مرة أخرى، وهو ما بعث برسالة هامة مفادها أن ما كان سائداً من رواية وحيدة للتاريخ يكتبها المنتصر لم يعد بنفس القدر من القوة والسيطرة، وأن التاريخ لديه فرصة أخيرة الآن لتصبح له ليس فقط رواية رسمية وأخرى موازية، بل عشرات ومئات الروايات لعشرات وآلاف الأبطال كلهم لديهم مساحة ما يمكنهم من خلالها تقديم شهاداتهم الحية على الأحداث وتوثيقها بالحرف والصوت والصورة. فمهما كان لدى المنتصر من أدوات تقنية ومنصات تلفزيونية وقدرات غير محدودة على المصادرة والمنع، فالمهزوم أيضاً لديه حساب فيسبوك يبقى مفتوحاً وموثقاً حتى وإن قُتل صاحبه أو اعتقل في غياهب السجون.
التعليقات (0)