هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بين السياسيين والاتهامات التي تلاحقهم هنا أو هناك قصة طويلة، لكن معظم هذه التهم لا نسمع به إلا في الدول الغربية أما عندنا فهو نادر.
آخر ما سجل في هذا الشأن ما أعلنته «لجنة الأخلاقيات» في مجلس النواب الأمريكي من فتح تحقيق ضد النائب الجمهوري مات غيتس أحد وجوه من يوصفون بـ«الجمهوريين الجدد» المؤيدين لترامب وذلك بشبهة إقامة علاقة جنسية مع قاصر، كما أن وزارة العدل الأمريكية تحقق هي الأخرى في نفس الشبهة ضد هذا النجم الصاعد في أوساط المحافظين الأمريكيين والذي تلاحقه فضائح أخرى ينفيها جميعا.
لا يقتصر الأمر على الجمهوريين، فها هو نجم آخر تلاحقه قضايا تحرش جنسي أضيفت إليها قضايا جديدة لتصرفات غير لائقة تجاه نساء، إنه حاكم ولاية نيويورك الديمقراطي أندري كومو الذي أبلى بلاء حسنا في مكافحة «كورونا» في ولايته، وهو حاليا يرفض الاستقالة، كما يطالبه حتى الديمقراطيون، متمسكا ببراءته وداعيا إلى انتظار ما سيقوله القضاء.
ومؤخرا أعلن رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون أن بلاده ستضع حدا للحصانة التي يتمتع بها البرلمانيون والقضاة وموظفو الدولة هناك في قضايا التحرش في أماكن العمل وذلك بعد الضجة التي أثيرت حول وزيرين تورطا في ذلك، مع إمكانية تمديد مهلة التبليغ عن هذا «الخطأ الجسيم» من ستة أشهر إلى سنتين.
أما في فرنسا فقد أدين مؤخرا كاتب الدولة السابق لدى رئيس الوزراء وعضو مجلس الشيوخ جون فينسن بلاسي في قضية تحرش مع أنها تعود إلى عام 2016 رفعتها ضده شرطية كانت تقف في حراسة بيته الوظيفي، لم يتردد في معاكستها بفظاظة.
لو أردنا أن ننبش قليلا ونبحث عن قضايا مشابهة في بلادنا العربية فلن نجد ولا واحدة تقريبا، وإذا قدر لإحداها أن تطل برأسها فلن يكون ذلك إلا عبر الاعلام الغربي نفسه، من ذلك ما ذكرته في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية من أن شابة بريطانية كانت تشرف على تنظيم مهرجان أدبي في الإمارات تعرضت لتحرش من نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح الإماراتي، الذي نفى مكتب المحاماة الخاص به التهمة التي رُفعت إلى القضاء للبت فيها.
تزداد الصورة قتامة تجاه هذا الموضوع المسكوت عنه، لاعتبارات أخلاقية ودينية ومجتمعية مع غياب الثقة في القضاء العادل وكيف أنه ميال دائما إلى أصحاب النفوذ على حساب من «لا ظهر له»
هل معنى ذلك أنه لا وجود بين سياسيينا ومسؤولينا العرب جميعهم من لم يفعلها؟!! الجواب بالتأكيد لا، ليس فقط لأن هؤلاء ليسوا ملائكة ولا منزّهين وإنما أيضا لأنه من الصعب جدا في الأجواء السياسية التي لدينا، ونعرفها جميعا، أن تنبري وسيلة إعلام وتتجرأ على فضح شيء من هذا القبيل، حتى في الدول التي تعرف حرية صحافة لا بأس بها. الجانب الآخر يتعلق بأنه من الصعب كذلك أن تقرر امرأة عربية أن تخوض معركة من هذا القبيل لما لها من انعكاسات مختلفة عليها تفضل في الغالب تجنبها بالسكوت عما تكون تعرضت له، خاصة إذا كانت تعلم مسبقا أن الرجل المعني من «علية القوم» صاحب نفوذ وقادر على تدمير حياتها بالكامل.
فوق هذا وذاك، ما زالت مجتمعاتنا العربية غير مستوعبة بالكامل لمعنى التحرش الجنسي، بل وقد تبرره ولا ترى فيه ما يعيب، خالطة بينه وبين ما تراه مراودة من رجل لامرأة يمكن لها أن تسايرها فيه أو ترفض دون فضائح ولا محاكم ولا شيء من هذا القبيل. الرجل الذي يقدم على التحرش عندنا قد نكتفي بوصفه أنه «نِسوَنْجي» بل وقد يشار إليه بذلك بنوع من الاعجاب أو الاستلطاف، أو بغير أي نوع من الاستهجان في أضعف الحالات.
تغيب عن ثقافة معظمنا أن أكثر ما يطلق عليه بدقة تعبير التحرش الجنسي هو ما يمكن أن يقوم به شخص، نظريا رجلا كان أو امرأة بالمناسبة، لإقامة علاقة جنسية مع شخص آخر رغم إرادته مستغلا مكانته وخاصة درجته الوظيفية الأعلى، بحيث يصبح ذلك نوعا من السلاح في وجه ذلك الشخص لإجباره على الاستجابة التي قد تتحول إلى ابتزاز دائم غالبا ما يؤدي الوقوف في وجهه إلى طرد من العمل أو جعله لا يطاق.
قد نتحدث عندنا عن التحرش في الشارع وندين مقترفيه ونقوم بحملات ضده في مواقع التواصل، مثل الحملة الواسعة التي جرت بكفاءة في مصر مثلا ضد هذه الظاهرة السيئة جدا والمنتشرة في كثير من الدول العربية ومقاومتها مطلوبة ومحمودة، لكننا لم نشهد في المقابل، إعلاميا على الأقل، قضايا تعلقت بمسؤولين كبار أو صغار، حامت حولهم شبهات تحرش ضد سيدات يعملن معهن، خاصة إذا كان هؤلاء المسؤولون معروفين بحظوتهم الكبرى العائلية أو العشائرية أو السياسية أو المالية فتلك معركة خاسرة مسبقا.
تزداد الصورة قتامة تجاه هذا الموضوع المسكوت عنه، لاعتبارات أخلاقية ودينية ومجتمعية مع غياب الثقة في القضاء العادل وكيف أنه ميال دائما إلى أصحاب النفوذ على حساب من «لا ظهر له» في وقت نرى في القانون الإسرائيلي مثلا أن مجرد دعوة على العشاء لسيدة بتلميحات مُبطّنة يمكن أن تقودك إلى المحكمة.
كاتب وإعلامي تونسي
(عن صحيفة القدس العربي اللندنية)