قضايا وآراء

عشر سنوات على انطلاق الحراك العربي

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
أولت كثير من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة اهتماما بمرور عشر سنوات على انطلاق الحراك العربي، أو اندلاع "الثورات العربية"، كما نعتها البعض. ولعل الدافع إلى هذا الاهتمام محاولة الإجابة عن سؤالين أساسيين يتعلقان بـ"الحصيلة والمستقبل"، وهما معا يتكاملان من حيث فهم الديناميات التي خلقها الحراك، وإدراك مخزون القدرات المتوفرة للبلاد العرية في إنجاز التغيير المطلوب، والمنشود من قبل شرائح واسعة من مجتمعاتها، أسوة بنظيراتها في دوائر كثيرة من العالم.

أجمعت كثير من الدراسات والتقارير المُنجزة في سياق العشرية الأولى للحراك العربي، على أن الحصيلة كانت أقل من التطلعات، وأن الإنجازات جاءت دون التضحيات، وأن متغيرات كثيرة لعبت في غير صالح "الحراك العربي" وثورات بلدانه، بل إن بعض هؤلاء المحللين والمتابعين استبدل تسميةَ "الربيع العربي" بـ"الخريف العربي"، في إشارة مجازية إلى ضعف ما حققه الحراك، وتأكيد واضح على انحراف "الثورات" وخروجها عن أهدافها ومقاصدها.
الحصيلة كانت أقل من التطلعات، وأن الإنجازات جاءت دون التضحيات، وأن متغيرات كثيرة لعبت في غير صالح "الحراك العربي" وثورات بلدانه، بل إن بعض هؤلاء المحللين والمتابعين استبدل تسميةَ "الربيع العربي" بـ"الخريف العربي"

بيد أن الحراك العربي، وإن دفع بالعديد من المتابعين لتطور أحداثه ومجريات وقائعه على امتداد عقد من لزمن، وأقنعهم بضعف نتائجه، فإنه رغم ذلك ما زال مادة ثرية للتحليل والتفكير واستخلاص الدروس الكفيلة بإضاءة سُبل المستقبل. الشاهد على هذا أن عشر سنوات في تاريخ الثورات وحركات التغيير الكبرى لا تمثل أهمية كبيرة، إذا نظرنا إلىها من زاوية بالمفهوم التاريخي للزمن، وليس بمعناه الطبيعي.

لعل من أبرز الدروس المستخلصة من تاريخ الثورات الكبرى، التي نجحت وغيّرت صورة المجتمعات، أن للثورة شروطاً اجتماعية واقتصادية وثقافية تمهد انطلاقها، وتيسر أسباب نجاحها. وقد حصل هذا في أكبر ثورتين في التاريخ الحديث: الثورة الفرنسية في 14 تموز/ يوليو 1789، والثورة الروسية لعام 1917.

فالثورتان معا شهدتا سيرورات ثقافية وفكرية، وهيكلية اجتماعية sociale structuration، ودرجة من التطور الاقتصادي، وكلها عوامل ساهمت بعمق في إنضاج مناخ الثورتين. كما أنهما لم تشهدا محيطا دوليا طارداً لاندلاعهما ونجاحهما، بنفس درجة ما حصل بالنسبة للحراك العربي و"ثوراته". والعالم العربي ظل يعُجّ، منذ القرن التاسع عشر، بالكثير من دعاة الإصلاح والتغيير، وتتقاذفه تيارات فكرية عديدة ومتنوعة، بل شهد وجربّ على أرض الواقع مجمل الأيديولوجيات الكبرى التي اخترقت نسيجه الاجتماعي والفكري، وتكبّد مرارة فشلها في النجاح وإحداث التغيير نحو الأفضل، بل إن البلاد العربية، على خلاف مجمل نظيراتها في العالم، ودّعت القرن العشرين دون إصلاح أحوالها، ودشنت الألفية الثالثة وهي تُغرد خارج سرب التغييرات الديمقراطية الكبيرة الحاصلة في الربع الأخير من القرن الماضي، وهكذا ولجت الألفية الجديدة وكل الأنظار موجهة إليها، بسبب وضعها السياسي والاجتماعي المتفرد في العالم.

يمكن القول إن ما حصل من حراك كانت مجمل المجتمعات العربية تتطلع إليه، وتنشده أفقا لتغيير أحوالها.. أدركته بالإحساس، والوجدان، والعواطف الجياشة، لكن لم تستوعبه بالعقل والفكر والمعرفة، والأكثر لم تتولد بداخلها نخب قادرة على إعقال الحراك، وتوجيهه، وإضاءة سبيله ليُحدث التغيير المنشود. ومن هنا، يمكن القول، كما ذهب إلى ذلك الكثيرون، إن الحراك، وسرعة انتشاره، وسقف مطالبه، شكل مفاجأة للنحب العربية، وللدول الأجنبية، التي ظلت حتى عشية اندلاع الحراك تستبعد فرضية وقوع أحداث من حجم الثورات في المنطقة العربية.
الأكثر خطورة ما حصل في البلاد العربية خلال العشرية الأولى من عمر الحراك هو الحضور الأجنبي ودرجة تأثيره على مآلات الحراك

كان لضعف الوعاء الثقافي الحاضن للحراك العربي و"ثوراته" بالغ الأثر على مسارات الحراك وامتداداته في البلاد العربية، كما كان لذهول النخبة السياسية وارتباكها أمام تجاوز المجتمعات لها؛ وقع سلبي على الديناميات الداخلية لسيرورات الحراك، غير أن الأكثر خطورة ما حصل في البلاد العربية خلال العشرية الأولى من عمر الحراك هو الحضور الأجنبي ودرجة تأثيره على مآلات الحراك.

فقد وقع تدخل كبير، ومن قبل أكبر قوة عسكرية في العالم (النيتو)، وفور إسقاط رأس النظام تُركت ليبيا لحالها تواجه مصيرها لوحدها، كما تم خذلان الحراك السوري، وفتحت أبواب البلد لآلاف المرتزقة والجيوش الأجنبية، وتم نسيان المعارضة الديمقراطية تتآكل بالتدريج. ولعل المصير نفسه يعيشه اليمن منذ سنوات، وحدها تونس تقاوم العُسر باليسر والأمل، وتسعى إلى توطيد تحولها الديمقراطي إن استطاعت إلى ذلك سبيلا.
لم يمت الحراك العربي و"ثوراته"، بل ضعفت جذوته، وربما خمدت روحه، وسيظل حياً، وقادرا على التجدد كلما تغيرت الظروف المفضية إليه

لا شك أن الحراك العربي و"ثوراته" لم يحقق إنجازات في حجم تطلعات المجتمعات العربية وتضحياتها، وربما أرجع دولا عربية إلى الخلف، قياسا مع الأوضاع التي كانت عليها من قبل. ولا شك أن الحضور الأجنبي وركوبه موجة الحراك كان له دور مركزي في حصول ما حصل لـ"الثورات العربية"، لكن من المؤكد أن الحراك على تواضع حصيلته كسر عقدة الخوف لدى الكثير من المجتمعات العربية، وأرجع لها قدرتها على الصدع بما تفكر فيه، ودفع بها إلى المواجهة السلمية لمصادر الحكم الشمولي ولجم الحريات، وهذه في حد ذاتها نتيجة بالغة الأهمية في فهم اتجاه الحراك العربي و"ثوراته" في المستقبل.

لم يمت الحراك العربي و"ثوراته"، بل ضعفت جذوته، وربما خمدت روحه، وسيظل حياً، وقادرا على التجدد كلما تغيرت الظروف المفضية إليه؛ لأسباب موضوعية هي أن أهداف الحراك في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وإبعاد الأجنبي لم تتحقق بعد، وإلى أن تتحقق سيبقى الحراك قائما، ومطلوبا، ومتجددا.
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الإثنين، 22-03-2021 08:30 م
*** لا نستطيع أن نستبعد كون الكاتب مغربياُ، ومدى ما يمكن أن يكون خاضعاُ له من اعتبارات داخلية للتخويف من امتداد الثورات إليهم، وفي تأثر وجهة نظره في اعتبار ثورات الربيع العربي بأنها مجرد "حراك"، والترويج لصالح الأنظمة المستبدة بفشل الحراك وانحرافه، والتخويف والتيئيس بأن العالم سيقف ضده، ولا يخفى بان اعتماد مصطلح الحراك فيه قدر كبير من التهوين من شأن تلك الثورات والقائمين بها، كما أنه يكرر نظرة المتفرنسين المعظمين من شأن الثورة الفرنسية، وهي التي مهدت لتأسيس امبراطورية نابليون الشمولية الاستعمارية العنصرية، التي اذاقت شعوب العالم الثالث الأمرين من نهب ثرواتها واستذلال شعوبها، كما أسست لعلمانية ارهابية تقمع المتدينين وتستخف بعقائد الشعوب باسم الحرية "شارل إبدو نموذجاُ"، كما لم يخف إشادته بالثورة البلشفية الروسية، التي قمعت شعوب وقوميات وأديان أوروبا الشرقية باسم دكتاتورية البروليتاريا في نظام شمولي لم يشهد العالم مثيلاُ في إجرامه عبر تاريخه، كما يروج لرؤية قاصرة تتمناها الأنظمة المستبدة بأن الحراك "ضعفت جذوته، وربما خمدت روحه"، وهذا ما يأمل فيه مرتزقة الأنظمة العربية والمتمسحين بهم، وسيرى هؤلاء من الشعوب التي استخفوا بها يوماُ قريباُ.