هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
علامتا الاستفهام والتعجُّب مُبَرَّرتان في عنوان هذا المقال، خاصّةً أنّ بيتهوڤن لم يَكُن متديّنًا بالشكل الطقسيّ المعروف في مسيحيّة عصرِه وبيئتِه، ولم يكتُب من الموسيقى الدينيّة الصريحة إلاّ أقَلّ القليل إذا ما قُورِنَ بسَلَفَيه (باخ) و(موتسارت) اللذَين يكوّنان معَه الثالوثَ الموسيقيّ الأهمّ في تتابُع عصر الباروك والعصر الكلاسيكيّ والعصر الرومانسيّ.
كما أنّ المَصادر التي تؤرّخ لحياته -لاسيّما السِّيرة التي كتبَها صاحِبُ سِرِّه (أنطون شِندلر)- تؤكّد انصراف بيتهوڤن عن الإيمان بالثالوث المسيحيّ واعتناقَه المذهَب الرُّبوبي Deism الذي يؤمن بوجود خالقٍ عظيمٍ للكون، لكنّه خالقٌ لا يتدخّل في شؤون الطبيعة ولا يكشف وجودَه عن طريق وحي أو معجزات.
ليس ذلك فحسب، وإنما تشير سيرة (شندلر) إلى أنّه لم يكن يتبادل الحديثَ مع أحدٍ أبدًا بخصوص رأيه في عقائد المذاهب المسيحيّة المختلفة، ويَخلو خطابُه – ذلك المعروف باسم عهد هايلِجنشتادت- الذي كتبَه إلى أخوَيه مع بداية معاناتهِ الصَّمَم من أيّ إشارةٍ إلى الله، وصولاً إلى اقتراح بعض نُقّاد الموسيقى أنّ بيتهوڤن كان على الأرجَح مُلحِدًا، وربّما شيطانيًّا بمعنىً ما.
على الجانب الآخَر، يقول (باري كوپر) في كتابه عن بيتهوڤن إنّه كان يحتفظ على مكتبِه بثلاثِ حِكَمٍ لاهوتيةٍ مصريةٍ قديمةٍ نَسَخَها بخَطّ يَدِه من مقال الشاعر (فريدرِش شلر) الموسوم (رسالة موسى Die Sendung Moses)، وهو مقالٌ مبنيٌّ على محاضرةٍ للفيلسوف الماسوني (كارل ليونهارد راينهولد) عن ظهور اليهودية ومفهومِها عن الله، وميلاد ذلك المفهوم من العقائد المصريّة القديمة. تقولُ هذه الحِكَم: "أنا ذلك الذي هُو - أنا كُلُّ ما هو كائنٌ وكلُّ ما كانَ وكلُّ ما سيكون، ولم يَرفَع إنسانٌ عنّي حِجابي – إنه واحِدٌ في ذاتِه، ومنه يستمِدُّ كُلُّ شيءٍ وجودَه."
لارَيبَ أنّ محاولة إطلاق حُكمٍ نهائيٍّ على موقف بيتهوڤن من الدِّين يمثل مصادرةً على الغَيب، فرغم مشروعيّة السؤال وتعدُد آليّات الإجابة عنه – سواءٌ من خلال فحص مَصادر سيرته وخطاباته أو باستقراء موسيقاه – يبقى طبيعيًّا أنّه مِثلَ معظم العباقرة قد مرّ بتطوُّرٍ رُوحِيٍّ خلال مراحل حياته، وأنّ معاينةَ ضميرِه بشكلٍ لا لبسَ فيه تبدو مستحيلة. لكنني لا أستطيع أن أقاوم إغراء التساؤل: ماذا عن الإسلام في موسيقاه؟!
لعلّ العنصر المُتّصل بالعالَم الإسلاميّ والذي تكرّرَت استعانةُ بيتهوڤن به في موسيقاه هو المارش التُّركيّ Marcia alla turca. هذا المارش يُفترَض أنه مؤلَّفٌ على غِرار الموسيقى التي دأَبَت على تقديمِها فِرَق الموسيقى العسكريّة الانكشارية العثمانيّة. ولا غَروَ إذا اعتبرنا هذا العنصر وثيق الصِّلة بنظرة الموسيقيّ الكبير إلى العالَم الإسلامي، فقد ظلّت المفردات الثلاثة (تركي – مُسلِم – محمَّدِيّ) بتنويعاتها في اللغات الأوربية لعددٍ من القُرون تعني بالنسبة للأوربيين الإشارةَ إلى نفس الشيء. المهمّ أنّ هذا الترادُف نتيجة الجِوار الجغرافيّ بالتأكيد، كما أنّ هذا التأثُّر بموسيقى الانكشارية – التي تُعَدُّ أوّل الفِرَق الموسيقية العسكرية عالَمِيًّا – يعود إلى الظهور المتكرر لتلك الفِرقة خلال المواجهات العسكرية بين ڤيينّا والعثمانيين.
ظهر المارش أساسًا في ثلاثة أعمالٍ لبيتهوڤن، أوّلُها الموسيقى التي ألَّفَها لتصاحِب عرضَ مسرحيّة (أطلال أثينا Die Ruinen von Athen) سنة 1811، للمؤلّف الألماني أوجُست فُن كُتسِبُووِ August von Kotzebue.
أُلِّفَت هذه المسرحيّة كشكلٍ من أشكال الدِّعاية لـ(فرانتس) إمبراطور النمسا وملِك المجر وبوهيميا (1804-1835)، حيث تستعين بالتاريخ الإغريقيّ رمزًا للسموّ الأوربي، فتبدأ باستيقاظ الرَّبَّة أثينا/ مينرڤا بعد ألفَي عامٍ من السُّبات لتستمع إلى زوجَين يونانيَّين ينعيان الحال المتردَّية لمدينتِها أثينا تحت الاحتلال العثمانيّ، وتحزن أثينا بشدّة، لكنّ أخاها (هِرمِس) يقودُها إلى بوداپست حيث يَشهدان ميلاد أثينا جديدةٍ، وافتتاح الإمبراطور (فرانتس) مسرَحًا ناطقًا بالألمانية في العاصمة المجَرية سنة 1812، وتنتهي بـ(زيوس) مُقيمًا تمثالاً لـ(فرانتس) بين تمثالَي رَبَتَي الإلهام (ثاليا) و(مِلپوميني). والمهمّ أنّ الأوساط الموسيقيّة ردّدَت رأي الموسيقيّ (فرديناند رِيس Ferdinand Ries) صديق بيتهوڤن وتلميذه الذي رأى أنّ المسرحيّة لا ترقى إلى موهبة بيتهوڤن المعروفة، حيثُ أشرارُ المسرحية – وهم العثمانيُّون مُحتَلُّو أثينا – يُخرِجون أجمل القِطَع الموسيقية في المسرحية، وهي المارش التركي، وكورَس الدراويش، وسنتعرّض لهذا الأخير لاحِقا.
فإذا أمّنّا على رأي (رِيس) الذي قد يؤيّده الاستماع إلى ألحان المسرحية كاملةً، فهل كانت مصادفةً أن يخصِّص بيتهوڤن اللحن الأجمل للعثمانيِّين؟ ربما كان الأمر على هذا النحو، لكن مُحتمَلٌ أن يكون بيتهوڤن – المتمرّد في الحياة وفي أبنيتِه الموسيقيّة- قرر أن يُضَمِّن المسرحيّة انتقامًا ساخرًا من (فرانتس) بصِفَتِه ممثّلاً للسُّلطة التي كان بيتهوڤن لا يميلُ إليها، فقد اتّخذ (فرانتس) لقبَ (إمبراطور النمسا) كردّ فعلٍ على إعلان ناپليون نفسَه إمبراطورًا لفرنسا سنة 1804، وقد كان هذا الإعلان الناپليونيّ مُحبِطًا لبيتهوڤن ومُثيرًا لغضبه، حتى إنه مَحَا الإهداء الذي خصّصه لناپليون من مدوّنة السمفونيّة الثالثة (البطوليّة Eroica)، فبعد إعجابِه بالبطل الفرنسيّ المُدافِع عن ثورة شَعبه ضدّ مَلَكِيّات أوربّا، انقلَب البطلُ إمبراطورا. أَمَا وقد انهزمَ (فرانتس) نفسُه أمام ناپليون مرّتين، في معركة أوسترلتس عام 1805 ثم عام 1809، فربّما بدا لبيتهوڤن أنّه محض دميةٍ تستحقُّ السخرية. وإذا صدق هذا الاحتمال، فإنّ بيتهوڤن يكون قد استخدم المارش التُّركيّ مطيّةً للانتقام الضمنيّ الساخر من (فرانتس) وأشباهِه من أباطرة أوربّا.
ظهر المارش التركي مرّةً ثانيةً في (نَصر وِلنجتون Wellingtons Sieg)، الموسيقى التي خلّد بها بيتهوڤن انتصارَ دوق وِلنجتون على چوزيف بوناپرت في معركة ڤيتوريا بإسبانيا عام 1813 وأهداها إلى چورچ الرابع أمير بريطانيا، وعُزِفَت لأول مرّة في ڤيينّا في نفس العام، في حفلٍ لصالح جنود النمسا وباڤاريا المُصابين في معركة هاناو أمام جيوش بوناپرت كذلك. وفيها قدّم بيتهوڤن في ثوب المارش التركيّ أغنيتَي الحرب (احكُمي يا بريطانيا Rule, Britannia) و(مارلبورو ذهبَ إلى الحرب Malbrook s'en va-t-en guerre) باعتبارِهما ممثلتين للجانبين البريطاني والفرنسي، واحدةً وراء الأخرى، على خلفيّة دقّات الطبول والمثلث والسِّمبال. وهو غالبًا جرى في ذلك على السَّنَن الشائع وقتذاك في الموسيقى الأوربية، باعتبار المارش التركي أفضل ما يجسّد الحرب.
أمّا الظهور الثالث المهمّ فهو في الحركة الرابعة من السمفونية التاسعة الكوراليّة، وفي هذا التسجيل نستمع إليه ابتداءً من الثانية 9:22، مميَّزًا بالإيقاع الثنائي 2/4 ودقّات آلات الإيقاع النّحاسيّة.
وبينما تُشير الموسوعة الحُرّة إلى أنّ وظيفة المارش التركي في ختام السمفونية الكوراليّة أقربُ إلى بعث الراحة بين جزأين أفخَم وأكثف من حيث الشحنة العاطفيّة، فإنّ للورنس كرامر Lawrence Kramer أستاذ الأدب الإنجليزي والموسيقى في جامعة فوردَم ومحرّر صحيفة (موسيقى القرن التاسع عشر) رأيًا آخَر، بَسَطَه في مقال بديع بعنوان (عَتَبَة الحرملِك: الموسيقى التركية والحُبّ اليونانيّ في أنشودة الفرَح لبيتهوڤن).
وباختزالٍ مُخِلٍّ، يَخلُص هذا المقال إلى أنّ بيتهوڤن تعامَل مع نَصّ الشاعر شِلَر الذي بَنى عليه الحركة الرابعة من سمفونيّته الأخيرة باعتبارِه مؤلَّفًا من خَيطَين، خَيطٍ يونانيٍّ دُورِيٍّ يتجلّى في عباراتٍ وتراكيب مثل (ابنة الإليزيوم - الخلائقُ جميعًا يشرَبون الفرحة مِن ثَدي أمِّهم الطبيعة)، وخيطٍ مسيحيٍّ يتجلّى في مِثل (والملَك واقفٌ أمام الرَّبّ – إخوتي، لابُدَّ أنّ وراء النُّجوم أَبًا مُحِبّا – ألا تسجُدون له يا ملايينَ الخلائق؟ ألا تُحِسُّ به أيُّها العالَم؟)، وأنّ بيتهوڤن الذي يتخلل موسيقاه – ولاسيّما هذه السمفونيّة – رُوحُ فلسفة (هيجل) التاريخيّة، إنما بحثَ في دَور الإسلام عمّا يُصالِح به بين قِيَم المجد اليونانيّ الغابر وقِيَم المسيحية الحاليّة، وذلك أنّ مشكلة الأُخوّة العسكريّة اليونانيّة – التي تتجلّى مثَلاً في حكاية أخيل وپاتروكلس في الإلياذة – أنّها مَشوبةٌ بالخُنوثة والمِثليّة الجنسيّة، أمّا الأخوّة العسكريّة الإسلاميّة على ما نحو ما يجسّدها المارش التركي فهي خلاصة حضارةٍ خشنة تقدّم رجولةً نقيّة. وهو ما عبّر عنه هيجل في كتابه (فلسفة التاريخ) بقولِه: "جوهر التعصُّب ألاّ يَحمِلَ تجاه الملموس إلاّ علاقةَ التدمير، بينما التّعصُّبُ في الإسلام كان في مُستطاعِه في ذات الوقت أن يصل إلى أعلى درجات التّسامي، فيتخلّص مِن كُل الاهتمامات الدنيئة ويتّحد بكل الفضائل المتّصِلة بالشهامة والبسالة."
ختامًا، نعودُ إلى كورَس الدراويش في مسرحية (أطلال أثينا). تقولُ أبيات الشاعر (فُن كُتسِبُووِ) ما يمكن ترجمتُه إلى "بطَيّات رُدنِكَ هذا حَمَلتَ القَمَرْ. ورُحتَ شققتَهْ! (أيتُها الكعبة! يا مُحَمَّد!) رَكِبتَ البُراقَ الأغَرْ. إلى فَوقِ سَبعِ سَماواتِ رَبِّكَ سُقتَه! (أيُّها النبي الأعظم! أيتها الكعبة!)".
Du hast in deines Ärmels Falten
Den Mond getragen, ihn gespalten.
Kaaba! Mahomet!
Du hast den strahlenden Borak bestiegen
Zum siebenten Himmel aufzufliegen,
Großer Prophet! Kaaba!
إنه الموضع الأوثقُ والأوضحُ علاقةً بالإسلام في موسيقى بيتهوڤن كُلِّها. يحلله (كرامر) في مقاله المُشار إليه ليصل إلى تعبير بيتهوڤن فيه عن التعصُّب من خلال توتُّر غناء الجوقة في سلّم مي الصغير، وهو توتُّر لا ينفرِج رغم سيطرة سلّم صول الكبير الفرِح على المصاحَبة الآليّة، ومن خلال افتقار الأداء إلى أدنى درجات الهارمونيّة، فجوقة التينورات (الأصوات الذكوريّة الأحَدّ) تغنّي في انسجامٍ تامٍّ مع جوقة الباصات (الأصوات الذكورية الغليظة) دون أي تقسيمٍ هارمونيّ. لكننا نُهِيبُ هنا برأيٍ أوردَه (كرامر) في مقالِه هو رأي (دونالد توڤي) في استخدام المارش التركي في (أنشودة الفرَح)، حيث يقولُ (توڤي) إنه تعبيرٌ عن: "المِثال الرَّهيب، فكأنّه خِمارٌ يَستُرُ رهبةَ أشياءَ أسمى بكثيرٍ ممّا يحتملُه الفهم الإنسانيّ". وفي رأيي أنّ مقولة (توڤي) تقتربُ كثيرًا من طبيعة التعبير الموسيقيّ الذي منحَنا إيّاه بيتهوڤن في (كورَس الدراويش) وهو أمام أبياتٍ تُشير إلى حادثتَي انشقاق القمَر والمِعراج المُفارِقَتين لحدود العقل الإنسانيّ.
والحَقّ أنّ تأويلَ (كرامر) للموضعَين السابقَين في موسيقى بيتهوڤن باعتبارِهما يعبّران عن التعصُّب/ الصرامة/ الخشونة الإسلاميّة يُحيلُني بشكل شخصي إلى مقولة (وِل ديورانت) في مجلّده عن حضارات الهند ضمن كتابه (قصة الحضارة)، حيث يتحدث عن موقع الإسلام بين أديان الهند فيقول ما معناه إنّ الإسلام سارَ سِيرةً رُجوليّةً في الهند فلم يتأثّر في عقائدِه وطقوسِه بأيٍّ من المَذاهب العديدة التي تعُجُّ بها الهند، ويُحيلُني إلى مقولة الناشر والمثقَّف اللبناني (ناجي نعمان) عن الفضائل الممكن أخذُها من كُلّ دين او مبدأ إنساني للوصول إلى السعادة، حيث يختارُ من الإسلام (حرارةَ الإيمان) تحديدًا، ويُحيلُني إلى تعبيرٍ موسيقيٍّ آخر عن حرارة الممارسة الإسلاميّة، يتمثل في أغنية فريق كوين المسمّاة (مصطفى إبراهيم). في رأيي، تبدو هذه كلُّها غَيضًا مِن فَيضِ شَواهِدَ على صرامةٍ/ خشونةٍ/ حرارةٍ حقيقيّةٍ أصيلةٍ في الإسلام، ربّما مَردُّها إلى صرامة عقيدة التوحيد الإسلاميّة نفسِها.
انتهاءً، يبدو أنّ بيتهوڤن رأى في الإسلام آخَرَ غريبًا، صارمًا رُجوليًّا مُهَدِّدًا، وإن كان في أعمق لحظات اقترابِه منه – ممثَّلَةً في كورَس الدراويش – قدَّمَ لنا معادِلاً موسيقيًّا رائعًا لِما تنطوي عليه عقيدة الإسلام من رهبةٍ ألوهيّةٍ مفارِقةٍ للمألوف الإنسانيّ.