هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
للا يُمكن اعتبار الأعمال الدرامية مصدرا للحقائق التاريخية، ولا يمكن اعتبارها أيضا ذات سُلطة مطلقة على الواقع، إنها لا تفرض رأيا، إنما قد تحاول توجيهه نحو غايةٍ ما فيما يخص القضية المطروحة فيها، كما أنها تؤدي دورا مهما، فالدراما هي وليدة التراجيديا، والتراجيديا غايتها التطهير، حسب ما يقول أرسطو، إذ يرى بأن الأعمال التراجيدية تقوم بعملية تطهيرية للذات الإنسانية، وقد فسّر ذلك بأن الإنسان أو المشاهد يرى ذاته مُجسّدة أمامه، سواء كانت ذاتا خيّرة أم شرّيرة، وهذه الذات هي التي يتقصمّها الممثلون، حيث نرى أنفسنا فيهم وهم يخوضون صراعا مع الحياة والأقدار، وبين ما يريدونه وما يُفرض عليهم، فنعيش معهم ذلك الصراع، ونشعر بآلام التجربة ونختار طريقنا لنصل في النهاية إلى النتيجة، وكل ذلك يحدث ونحن لم نبرح أماكننا بعد!
ومما يميز بعض الأعمال الدرامية المخاطبة للإنسان، أنها لا تخاطب المتلقي على نحوٍ مباشرأو تقوم بحصره في مفهوم ضيّق، وتعرية المعنى أمامه، بل تقوم بإذابة الرسالة المنشودة في العمل المقدّم، وإخفاء الفكرةِ ليبدو الوصول إليها أكثر إثارة، كما يساهم ذلك في ولادة تصورات وتحليلات أكثر تنوعا وثراء تضفي عليه، أي على العمل، صفة العمق والذكاء، فكلما كانت الفكرة متماهية مع عناصر العمل، وأكثر تألفا مع طريقة الطرح والعرض الدرامي، حققت تأثيرا كبيرا، وهو ما يكون مأمولا منها، بل هو الحكمة من وراء تجسيدها وتقديمها.
وتعدّ الأعمال الدرامية السورية، إحدى النماذج الرائدة في عرض القضايا سواء السياسية أو الاجتماعية وغير ذلك، فقد قدمت على مدار سنوات طويلة الواقع بما فيه من صراعات، وأظهرت العديد من المشكلات التي تحيط بالإنسان العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص، وقد تبنت الدراما السورية التعبير عن الإنسان بصفته فردا في عالمه الداخلي الخاص، أو بصفته صورة نمطية ينطوي تحتها أشخاص مختلفون ظاهريا، إلا أنهم يلتقون في النهاية عند نقطة مشتركة فيما بينهم، وبذلك كانت الدراما السورية شاملة وصادقة إلى حد كبير، والأمثلة على ذلك تطول.
إن اندلاع الثورة السورية، والصراع الذي قام بين النظام ومعارضيه، والحرب التي انفجرت على الأراضي السورية، والتي تسببت بلجوء الملايين من بلدهم، كل ذلك جعلت من الدراما السورية مادة خصبة تولد الكثير من الأعمال الدرامية، و ظلت الدراما السورية، كما عودتنا، تمثل الواقع، وتُظهر الوجه والوجه الآخر من الأحداث التاريخية والاجتماعية، وتتميز بتعدد الأصوات داخلها، لكنها أعمال نادرة جدا، والسبب في ذلك هو لجوء العديد من نجوم الدراما السورية للبلدان الأخرى، ومشاركتهم في أعمال لبنانية ومصرية، إضافة إلى إحكام النظام السوري هيمنته على شركات الإنتاج ونقابة الفنانين، ولجان الرقابة التي حرصت على تقديم أعمال محايدة أو أعمال لا تتطرق للقضية من الأساس، لكن ذلك لم يمنع من ظهور أعمال تؤيد الثورة ولو بطريقة غير مباشرة، كالأعمال التاريخية التي يمكن إسقاطها على الواقع المعاش، والأعمال التي تصور الواقع السوري دون الاصطدام بشكل مباشر مع السلطة، وبالطبع الأعمال التي تخفي الرسالة في داخلها وتترك للمشاهد مهمة استنتاج ما ترمي إليه من مقاصد، تستهدف شجب الفساد واستنكار قتل الأبرياء بلا ذنب، وتكميم الأفواه باستخدام القوة والعنف.
وقد تألقت الأعمال السورية التي أيدت الثورة، فعلى الرغم من ندرتها، إلا أنها حققت نجاحات واسعة، وظلت ملتزمة برسالة الفن الذي يجب أن يحترم المشاهد العربي والسوري، ويبث قضايا مهمة وأفكارا ذات أبعاد واسعة، ويركز على المضمون والهدف المنشود، بخلاف الأعمال الأخرى، التي حاولت لفت الانتباه فتسببت بانحدار الأعمال السورية بعد أن كانت في قمة نجاحها، فأحدثت تلك الأعمال ضجة في الآراء العامة لأسباب عديدة، من هذه الأسباب المواضيع التي طرحت فيها، وشكلت صدمة للجمهور العربي والسوري، إذ تطرقت لمواضيع شبه محظورة وحساسة، كالمثلية الجنسية، وزنا المحارم، والاتجار بالأطفال والنساء، لكن المشكلة الحقيقية لم تكن في الموضوع المطروح بقدر ما كانت تكمن في طريقة العرض الجريء والمبتذل، والتركيز على المشاهد الحميمية، والإيحاءات الجنسية، وعرض مفاتن الأجساد، دون أن يكون ذلك مرتبطا بمضمون المشهد، أي دون حاجة درامية ملحة، إذ يمكن الاستغناء عنها وجعل المشهد أكثر احتشاما يتوافق مع مسلسل تشاهده العائلات، لذا فقد بدت في غاية الابتذال، خصوصا مع ضعف السيناريو وسذاجة الفكرة التي يقوم عليها المسلسل ككل!
وهذا بخلاف الأعمال الغزيرة التي كانت تنتج قبل الثورة، والتي لاقت صدى واسعا في البلاد العربية، إذ كانت المنازل العربية لا تخلو من متابع شره لكل عمل جديد قادم من سوريا، فاللهجة المحببة، والقيم النبيلة التي كانت تتمثل بشكل كبير في مسلسلات الحارات الشعبية القديمة، والقضايا الإنسانية التي تحكي واقع الإنسان العربي والسوري ومعاناته في حياته اليومية وتصويره في خضم صراعاته، إضافة إلى سيناريوهات مميزة كانت كل عبارة فيها تعدّ اقتباسا يُستشهد به حتى اليوم، كل ذلك جعل منها مؤهلة لتكون الدراما العربية الأولى سابقا، لكننا اليوم نشهد تصاعدا في الدراما اللبنانية التي استعانت للصعود بنجوم الدراما السورية، والدراما المصرية كذلك، وقد اقتصر نجاحها على تحقيق نسب مشاهدة عالية وأداء نجوم الدراما السورية المشاركين، ولم يكن نجاحا على مستوى الحكاية أو القضية التي يناقشها، وهذا أدى إلى حدوث حالة من الحنين تجاه الأعمال القديمة، وعودتها على قائمة الأكثر مشاهدة على شبكة الإنترنت، رغم مرور سنوات على عرضها.