هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
احتفت الصحافة الغربية يوم
أمس، 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، بالذكرى العاشرة لانطلاق «الربيع العربي» حين
أقدم المواطن التونسي محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده احتجاجا على امتهان
كرامته من جانب شرطية تونسية منعته من ممارسة عمله. لافت، بادئ ذي بدء، أنّ معظم
وسائل الإعلام الغربية التي احتفت بـ»الربيع العربي» انطلقت من ذكرى البوعزيزي هذه،
وليس من تاريخ هرب دكتاتور تونس زين العابدين بن علي يوم 14 كانون الثاني (يناير)
2011؛ وقد ينطوي هذا على دلالة مختلفة تخصّ ذلك النسق من الحراك الشعبي الاحتجاجي،
أي إضرام النار في الجسد، وليس النسق الآخر الذي يخصّ انهيار النظام ابتداء من
رأسه وذروة الهرم في بنيته.
طريف أنّ غالبية الكتّاب المحتفين بالمناسبة
في وسائل إعلام فرنسية وبريطانية وأمريكية وقعوا، من دون اتفاق مسبق كما يقول
المنطق البسيط، في حيرة لجهة تحديد التسمية اللائقة بتلك الانطلاقة؛ على غرار
تساؤل يومية الـ»فيغارو» الفرنسية: أكان الحدث، في نهاية المطاف، خلاصة «ربيع
عربي» أم «خريف إسلامي» أم «شتاء جهادي»؟ وما معنى أن تكون تونس هي الاستثناء
الوحيد، مقابل ليبيا وسوريا واليمن؟ وما دلالة الوقائع (إذْ يعزّ على الصحيفة
إيجاد تسمية محددة، مثل الانتفاضة أو الثورة) في السودان والعراق والجزائر ولبنان؟
وهل يصحّ القول إنّ «الإسلاموية» (التعبير الرائج في فرنسا هذه الأيام) أسلمت
أقدارها إلى «الجهادوية» وما دلالة أنّ شرائح واسعة في الشارع الشعبي العريض ما
تزال مستعدة لممارسة الاحتجاج والاعتصام والاعتراض؟
أسبوعية الـ«إيكونوميست» البريطانية اختارت
مستوى تحليل أكثر رصانة، أو بالأحرى أكثر انسجاما مع عراقة الخطّ الليبرالي، أو
النيو ـ ليبرالي بين حين وآخر، الذي تنتهجه الدورية العريقة. «التاريخ ليس خطيا.
الثورات تفشل، ويحدث أحيانا أن ينتصر الأشرار. لا سبب يدعو إلى توقّع أن تسفر
الجولة المقبلة من انتفاضات العرب عن نتائج أكثر مدعاة للسعادة. وعلى المنوال
ذاته، مع ذلك، لا سبب يدعو إلى تصديق الأوتوقراطيين حين يزعمون أنهم أكثر قدرة على
منعها». هكذا يكتب تحرير الـ»إيكونوميست» في التقديم لملفّ بعنوان «قبل عقد من
الزمان انتفض العرب. فلماذا لم تتحسن الأمور؟» بين الأمثلة على مناورات مستبدّي
«الربيع العربي» تتوقف الأسبوعية البريطانية عند نموذج بشار الأسد: «لقد أقنع
الكثير من أنصاره بأنّ الانتفاضة السورية هي من فعل المتطرفين. ولم يكن هذا رجما
بالغيب بل كان نبوءة مخططا لها ذاتيا: إفراج عن جهاديين كفاية من السجون، وتصفية
ما يكفي من المعتدلين، وتجويع الشعب زمنا كافيا ضروريا، ولن يطول الوقت حتى تصبح
الحركة السلمية جذرية متشددة».
فماذا عن سؤال الملفّ الأساس، أي لماذا اتخذت
الأمور هذا المنحى في نهاية المطاف؟ لن يفاجئك خطّ التحليل الذي تعتمده الصحيفة
الفرنسية اليمينية، لأنه ببساطة يتراوح بين التساؤل عن قابلية العرب (الإسلام ضمنا،
غنيّ عن القول) لاعتناق الديمقراطية، شعوبا وأنظمة؛ وبين ردّ الحال إلى مزيج من
تحالفات ضمنية بين الاستبداد و»الإسلاموية» و»الجهادوية». الأسبوعية البريطانية لا
تركن إلى السطوح هذه، فتساجل بأنه لا إجابة على سؤال مسار الخطأ لدى بلدان دون
أخرى: «يمكن إلقاء اللوم على قوى خارجية، من إيران إلى روسيا إلى غرب عاجز غير
متسق. يمكن لوم الإسلاميين، الذين زرعوا التفرقة غالبا في سياق جشعهم إلى السلطة.
وأكثر من هؤلاء وهؤلاء، يتوجب لوم الرجال الذين حكموا الدول العربية بعد أن نالت
استقلالها في القرن العشرين. ورغم أنّ بعضهم فهم شيئا ما عن الديمقراطية، فإنّ
الأمر اقتضى ما هو أبعد من مجرّد الانتخابات».
الـ»فيغارو» و الـ»إيكونوميست» مجرّد نموذجين
بالطبع، وثمة عشرات الأمثلة الأخرى خاصة في ميادين أكاديمية وعلى صعيد الدراسات
والأبحاث الأكثر التزاما بمعايير صارمة في القراءة والتحليل والاستنباط. مؤسف، مع
ذلك، وفي يقين هذه السطور على الأقلّ، أنّ الحصيلة الإجمالية لا تبدو متقدمة بما
يكفي عن الحال التي كان عليها المشهد التحليلي الغربي ساعة احتراق بدن البوعزيزي
وانطلاق الحناجر بالهتاف غير المسبوق: «الشعب يريد إسقاط النظام!». يومذاك توفّر
العشرات من أهل الكيل بعشرات المكاييل، ممّن كانوا هم أنفسهم نفر المراقبين ـ
والمحللين والأخصائيين والمستشارين… أو فقهاء علوم الشرق الأوسط، باختصار ـ الذين
رحبوا بـ»هبوب رياح الديمقراطية» على المنطقة؛ واستسهلوا تسمية ربيع (جاء في أواخر
الخريف، مطلع الشتاء عمليا!) مستمدّ من بطون رطانة اصطلاحية غربية لا تعبأ باختلاط
حابل بنابل.
وكان أمرا طبيعيا، وتلقائيا، ألا تُطرح
الأسئلة بشفافية الحدّ الأدنى، بل يجري ليّها وتحويرها بما يقوّي حجة القائلين
بأنّ الربيع انقلب إلى شتاء أو خريف (على هدي ما تفعل الـ»فيغارو» اليوم!)؛ ولكن،
أيضا، كي تُجرّد انتفاضات العرب من أغراضها الشعبية الكبرى، في الكرامة والحرية
والمساواة، وتُسحب إلى حيثيات أخرى تَرفع، هنا أيضا، راية حقّ لا يُراد منها إلا
الباطل. توماس فريدمان، المعلّق الشهير في «نيويورك تايمز» كتب مقالة بعنوان
«الربيع العربي الآخر» بدأها بافتراض أنّ البوعزيزي أحرق نفسه وسط مناخات ارتفاع
أسعار المواد الغذائية عالميا؛ وأتبعها بأنّ الفلاحين، في محافظة درعا السورية،
ثاروا على النظام بسبب منعهم من بيع أراضيهم المحاذية للحدود مع الأردن!
وفي فرنسا، بمزيج من السخرية والاستهجان، هتف
أوليفييه روا، أحد كبار الأخصائيين في شؤون الإسلام والشرق الأوسط: «ما الذي
دهاكم! هل نبدأ من جديد؟ صدام الحضارات، وسخط المسلمين، والعالم المسلم الذي
يلتهب، وعجز الإسلام عن قبول الروح النقدية وحرّية التفكير؟»… والرجل، الذي استهلّ
«الربيع العربي» بتوبيخ زاعمي معرفة الإسلام والمسلمين، بمقالة شهيرة لاذعة
عنوانها «ليست ثورة إسلامية»؛ ناشد الناس ألا يجرّموا «الربيع العربي» اتكاء على
أعمال عنف هنا وهناك ضدّ فيلم أو رسوم كاريكاتورية. صحيح أنها لم تلجأ إلى هذا
المستوى من العنف، ولكن ألم تتظاهر جماهير مسيحية في الغرب، وعلى نحو عنيف أحيانا،
ضدّ «الإغواء الأخير للمسيح» شريط مارتن سكورسيزي، سنة 1988؟ ألم تضغط الكنيسة
الكاثوليكية، وإنْ بطرائق أقلّ صخبا وأكثر فاعلية، ضدّ ملصقات «نزهة الجلجلة» شريط
رودريغو غارسيا، سنة 2011، سأل روا؟
فإذا انتقل المرء إلى الساسة، وأهل الصفّ
الأوّل بينهم، توفرت تلك الخديعة الكبرى، التي انخرط فيها الرئيس الأمريكي الأسبق
جورج بوش الابن، وكبار مساعديه، وبعض رجالات الصفّ الأوّل من «المحافظين الجدد»؛
والتي سُمّيت «نقل فيروس الديمقراطية إلى العرب» من خلال احتلال العراق، وإقامة
نظام ديمقراطي غير مسبوق، ثمّ تصديره إلى الجوار بطريق الإغواء أو القسر. خَلَفه،
باراك أوباما، تابع نهج السلف مع إضافة «مسحة أسلوبية» شخصية، هي مداهنة المسلمين
(في خطبتَيه أمام البرلمان التركي ومن جامعة القاهرة) علانية؛ والإمعان أكثر فأكثر
في تخريب العلاقات مع العالم المسلم من خلال سياسات الانحياز المطلق لدولة
الاحتلال الإسرائيلي، ومراقصة الطغاة، وتعليق الأمل على نواياهم «الإصلاحية» حتى
ربع الساعة الأخير قبيل سقوطهم (المرء يتذكّر مدائح هيلاري كلنتون، لأمثال زين
العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح، وحتى بشار الأسد نفسه).
عشر سنوات على البوعزيزي علّمت الشعوب الكثير،
أغلب الظنّ، ولكن لا يلوح أنها أضافت إلى معارف النطاسيين في الغرب إلا القليل،
وفي مستوى السطوح وحدها.