تنبه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى أن كثيرا من المفكرين ينتقلون من
هوبز إلى لوك مباشرة دون المرور بـ الألماني
بوفندروف، 1632- 1694، وقد تنبهت أثناء عمليات البحث في الإنترنت إلى أنه لم يترجم أي كتاب لـ بوفندروف إلى اللغة العربية، فضلا عن الأبحاث التي تكاد تكون معدومة عنه تماما.
كيف يمكن تفسير إهمال الباحثين والمترجمين العرب لـ بوفندروف، وهو الذي كان من رواد المفكرين آنذاك، وقد اعتبر لوك كتابه "في قانون الطبيعة والأمم" أفضل من كتاب غروتيوس "في قانون الحرب والسلم"، فيما وصفه فيكو بأنه أحد الأمراء الثلاثة لـ القانون الطبيعي للأمم.
ربما يكون السبب في ذلك أن بوفندروف على الرغم من أهميته في تطوير نظرية العقد الاجتماعي، إلا أنه لم يكن ظاهرة تأسيسية في هذه النظرية كما كان هوبز قبله، أو كما كان لوك بعده مؤسس الفكر الليبرالي الأول.
أهمية بوفندروف
يتساءل ديفيد باوتشر: لماذا يعتبر بوفندروف مفكرا مهما في تراث العلاقات الدولية؟ لقد كتب بوفندروف في مرحلة تاريخية كانت أوروبا مليئة بالحروب التي أدت إلى تدمير السكان والاقتصاد.
كانت ثمة أسباب لحرب الثلاثين عاما، أبرزها الخصومات الدينية المنعكسة في معاهدتي السلام الكاثوليكية والبروتستانتية المنفصلتين اللتين أبرمتا في مونستر وأوسنابروك على التوالي، والخوف من خطط الهيمنة لدى فرديناند الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وملك إسبانيا فيليب الرابع وهما من أسرة هابسبورغ، وعكست اتفاقية ويستفاليا مصالح واضعيها، فرنسا والسويد وهولندا، في تقليص السلطة العالمية للبابوية والإمبراطوريتين الرومانية المقدسة والإسبانية تحت حكم أسرة هابسبورغ.
وأقرت الاتفاقية أساسا التطوريات السياسية والنظرية في نشوء الدولة المعاصرة، وعمدت الدولة تدريجيا إلى المطالبة بحق احتكار إعلان الحرب والسلم، والتمثيل الدبلوماسي وعقد الاتفاقيات مع القوى الخارجية.
وأخذ ينظر إلى الدولة باضطراد بمثابة كيان مجرد متباين عن شخص الحاكم وعن سلطة الشعب، وأحبطت معاهدة ويستفاليا طموحات الإمبراطور في الهيمنة عبر الإقرار بحق أكثر من ثلاثمئة كيان سياسي في تشكيل تحالفات وتولي شؤونها الخارجية، كما أقرت بحق فرنسا والسويد التدخل إذا نكث الإمبراطور بوعده التخلي عن طموحاته الإمبريالية.
وأجازت اتفاقية ويستفاليا شرعية مجموعة من الدول الفاعلة، فيما أرست في الوقت ذاته مبدأ التوازن كآلية لمنع أي تفوق بالقوة، فهي لم تحل نزاعات السلالات الحاكمة، بل قلصتها.
وكانت الاتفاقية ناجحة جدا في احتواء طموحات الهيمنة لدى أسرة هابسبورغ، ولكن نظرا إلى اعتمادها على توحيد قوة فرنسا والسويد، فهي لم تتوقع طموحات الملك لويس الرابع عشر من أسرة بوربون للهيمنة على أوروبا.
والتسوية التي خرجت بها الاتفاقية بدلا من أن تمنع الحرب قدمت معايير إزاء متى يمكن اللجوء إليها على نحو مشروع، إن الحرب حولت السياسة وغدت لازمة لعملية إنشاء الدولة.
حالة الطبيعة
اتفق بوفندروف مع هوبز في أن حالة الطبيعة هي حالة وهمية وضعت لأغراض سياسية معاصرة في وقتهما، كما يتفق معه أيضا على أن البشر متساوين في تلك الحالة وأن الأنانية والمصلحة الذاتية هي الدافع وراء تلك حالة الفطرة والتوجه نحو المجتمع المدني.
إن حب الذات أو حق الأفراد الذاتي في حفظ حياتهم يتوافق مع قانون الطبيعة، ما يعني أنه يمكن استخلاص القوانين المفضية إلى حفظ الذات من طبيعة الكائنات البشرية، وفي هذا تباعد مع أولئك الذين شككوا في قدرة الفرد على اكتشاف الحقيقة بعيدا عن الإيمان.
ومع ذلك، فإن بوفندروف يرى أن قانون الطبيعة المغروس في عقولنا هو جزء من القانون الأبدي الإلهي الذي يشكل العناية العليا لكل ما هو موجود، وبذلك أقام بوفندروف فكرة الحق الطبيعي بالتأكيد على وجود نظام أخلاقي كوني موضوع من قبل الله.
هذه الطبيعة المغروسة في عقول البشر هي ما يسميها بوفندروف بالحمية العامة والتي تجعل البشر في حالة الفطرة التعاون في ما بينهم، وهي أشبه إلى حالة العصبية عند ابن خلدون.
ما هو هدف بوفندروف بإرجاع القانون الطبيعي إلى القانون الإلهي والقول بوجود منظومة اخلاقية كونية؟
الجواب يكمن في أنه أراد التأكيد على أن القوانين الوضعية التي يصنعها البشر يجب أن تكون مستندة في بنيتها القانونية والأخلاقية على الطبيعة البشرية الحقيقية، وعلى المبادئ الكونية التي رسخها الله فينا، بمعنى لا يجب على القوانين الوضعية أن تكون مخالفة لسنن الوجود.
لا يفهم من ذلك أن بوفندروف كان يمثل الاتجاه الديني السكولاستي، بل على العكس كان يمثل الفلسفة الطبيعية المناهضة للمذهب السكولاستي الذي حاول التوفيق بين النقل والعقل على غرار علم الكلام في الحضارة الإسلامية.
ما أراده بوفندروف هو أن يبرهن أن الافتراضات الأخلاقية يمكن البرهان عليها بالاستنتاج المنطقي، وفي هذا نوع من الفصل بين الدين والأخلاق، والأخيرة بالنسبة له ليست صفة للأشياء، بل هي إضفاء للقيمة أو للحكم.
اختلف بوفندروف مع هوبز حول وضع الأفراد في حالة الطبيعة، وبالتحديد رأيه القائل بأن وضع البشر في حالة الفطرة هو انعدام السلام لأن الكل داخلون في حرب ضد الكل.
لا يتطلب الوضع في حالة الطبيعة حالة الحرب بالنسبة لـ بوفندروف، لأنها حالة طبيعية تعبر عن بساطة الإنسان وفطرته، حيث لا ضرورة موجبة للحرب، فالكل يعيشون وفق متطلبات العقل الأولية ووفق الحاجات الأولية، لأن المبادئ الأساسية للعقل مطبقة فيها، إنه سلام لا يقوم على أي اتفاق، لأن الالتزام بالحق الطبعي هو أساس كاف له.
لكن هذا السلام يظل برأي بوفندورف تلميذ غروتيوس، ضعيفا ما لم يأت شيء ليثبت هذا السلام، إن هذا الشيء هو الدولة التي لها أصل تعاقدي وفردي، ولكن بدقة فريدة لم نكن نجدها لدى الهولندي.
بالنسبة لـ بوفندروف، فإن البعد الفرداني الذي أكد عليه هوبز لا يعبر تعبيرا دقيقا عن طبيعة العلاقات بين البشر في حالة الفطرة، فثمة حس مشترك أو حمية عامة تدفع الجميع للتعاون في ما بينهم، وكان من بين هذا التعاون هو أن ينقلوا إلى بعضهم البعض الاكتشافات التي حققوها.
ومع ذلك، فإنهما يلتقيان في أن حالة السلام الدائمة لا يمكن أن تتحقق في الحالة الطبيعية، وإنما تتحقق في الحالة المدنية، لأن بوفندروف اعتبر أن مفهومي العدل والظلم كانا متواجدين في حالة الفطرة.
العقد الاجتماعي
وضع بوفندروف عقدين اجتماعيين، بدلا من عقد واحد كما فعل هوبز: ينشأ من العقد الأول المجتمع المدني بعد توافق الأفراد على ترك حالة الفطرة، فيما تنشأ الدولة عن العقد الثاني، ويتضمن العقد الثاني هذا تبادل للضمانات بين الحكام والمحكومين، يقدم الأخيرون بموجبه فروض الطاعة مقابل تحقيق الحكام الخير العام، وهذا يعني أن الحاكم جزء أصيل من العقد الاجتماعي.
لم يتوسع بوفندروف كثيرا في الالتزامات المتبادلة بين الحاكم والمحكومين، ولذلك وجد بعض الباحثين أن ثمة تناقض في نظرية بوفندروف من حيث أنه ضمن هذه النظرية سمات الحكم المطلق.
بيد أن ثمة اختلافا مهما بينه وبين هوبز، ففي حين اعتبر هوبز أن الدولة مجسدة بشخص الحاكم، ذهب بوفندروف إلى منح صفة اعتبارية للدولة متميزة عن شخص الحاكم، ولا يفهم من ذلك أن فكرة السيادة ككيان مجرد له شخصيته الاعتبارية هي التي تحدث عنها بوفندروف، فهذه الفكرة لم تتبلور بعد بشكلها الواضح، لكن بوفندروف استطاع تلمس هذه الفكرة.
ويعتبر أن السيادة هي النفس التي تحرك شخص الدولة، وهي متماثلة مع الطبيعة من حيث كونها تتماثل مع الحس الاجتماعي البشري والعقل السليم، والله أجاز السيادة لكن لم يمنحها مباشرة لحكام الدول، بل منحها بواسطة الإرادة البشرية، وبالتالي يقوض بوفندروف عقيدة السيادة الشعبية من دون التصديق على الحق المقدس للملوك.
اهتم بوفندروف بمسائل أخلاقية الحرب، وهو يعتبر الحرب غير متماثلة مع الطبيعة البشرية، وهي ليست أداة للسياسة كما كانت بالنسبة لـ ثيوسيديدس ومكيافيلي وهوبس، بل هي ملاذ أخير لحماية الحقوق.
وبرأيه فإن الطبيعة تجيز الحرب عندما تشن لغرض ضمان السلم، يشدد مثل سابقيه على النية السليمة كسبب للحرب، ويتوافق بوفندروف مع فيتوريا وغروتيوس في إنكار أسس الحرب التي يجيزها كل من ثيوسيديدس ومكيافيلي وهوبس، فالحرب بالنسبة له تكون غير عادلة إذا شنت برغبة في الاستحواذ على ملك زائد.
وفيما شكل الخوف لدى ثيوسيديدس ومكيافيلي وهوبس لشن الحرب، اعتبر بوفندروف أن الخوف غير كاف ولا يشكل سببا للحرب.
لكن في مقلب آخر نجد بوفندروف متطرفا، ففي حين أراد غروتيوس إخضاع مجريات الحرب لحكم القانون، اعتبر بوفندروف أن الاخلال بواجبات السلام تجاه الآخرين يثبت أنه عدو، وبالتالي يجوز للضحية استخدام أي درجة من القوة تعتبر ضرورية لوضع حد للحرب، ويجادل بأنه من دون هذا الترخيص للتصرف بتطرف لا يمكن تصور نهاية للحرب.