يقوم النظام السياسي في عالم اليوم على أن المعارضة هي مشروع مؤجل للحكم. قد يمتد هذا التأجيل من أربع إلى ثماني سنوات. ولكن الاستثناء العربي وضع معظم المعارضات خارج السلطة ثم في السجن ثم إلى المنفى، وهو الأمر الذي لم ينعكس فقط بالسلب على المعارضين والمناخ السياسي، وإنما انعكس أيضا بالسلب على آليات وأساليب الإدارة العامة. فالمعارضات العربية محرومة من ممارسة إدارة الدواوين والاحتكاك المباشر مع أجهزة الدولة.
وقد انصب نضال المعارضين العرب خلال العقود الأخيرة من الداخل والخارج على مسألتين أساسيتين، وهما الإصلاح السياسي ثم لاحقا مسألة حقوق الإنسان. وهما مسألتان مهمتان بالطبع، غير أن هناك قضية أساسية أخرى غائبة عن الجميع، وهي مسألة فنون الإدارة وأدوات الحكم الرشيد. فمفهوم الإدارة تطور على السنوات الماضية ليصبح علما مستقلا بذاته، وتندرج تحت هذا العلم إدارة الشركات وإدارة منظمات المجتمع المدني وإدارة السياسات العامة والمالية العامة، وغيرها من فنون وآليات الإدارة.
انصب نضال المعارضين العرب خلال العقود الأخيرة من الداخل والخارج على مسألتين أساسيتين، وهما الإصلاح السياسي ثم لاحقا مسألة حقوق الإنسان. وهما مسألتان مهمتان بالطبع، غير أن هناك قضية أساسية أخرى غائبة عن الجميع، وهي مسألة فنون الإدارة وأدوات الحكم الرشيد
لقد أثبتت تجربة الثورات العربية أن النضال المتراكم للقوى السياسية يمكن أن يصل بها إلى السلطة يوما ما. وأثبتت أيضا أن صخرة الإدارة يمكن أن تتكسر عليها كثير من الأحلام والنضالات، وهي صخرة تختلف عن مؤامرات الثورات المضادة وخطط الخصوم في الداخل والخارج. فمن السهل أن يصدر المسئول في أي قطاع قرارا، لكن من الصعب أن يضمن تنفيذ هذا القرار. فهناك مقاومة ذاتية من الموظفين القدامى أو ما يطلق عليها أحيانا الدولة العميقة. فتحويل القرار الإداري النظري لمحل التنفيذ، ثم وضع هذا التنفيذ في إطار استراتيجية عامة تؤدي لنتائج ملموسة، هو فن ليس سهلا، بل يحتاج لإطار نظري معرفي وتجربة كافية لضمان نجاح هذه العملية المعقدة.
تمتلك المعارضات العربية كثيرا من المنابر الإعلامية وكثيرا من الخطابات السياسية، لكنها تفتقر لكثير من التدريب والخبرة الإدارية. يتجلي هذا في الإخفاق الإداري الذي تعانيه في إدارة شؤون أفرادها في المهجر وبعض المؤسسات الصغيرة. ويكفي أن يبحث أي شخص على محرك البحث غوغل عن معارك المعارضات العربية في المهجر، وسيجد كثير منها في مختلف الدول.
أتذكر أنه في عام 2011 جمعتني جلسة ببعض المعارضين العرب في العاصمة البريطانية لندن، وكان النقاش حامي الوطيس بينهم حول إدارة إحدى الجمعيات الخيرية الصغيرة. انبرى أحد المسئولين فيها للدفاع عن نفسه ونزاهته في مقابل تشكيك بعض الأعضاء في نزاهته المالية. هدأت نبرة النقاش قليلا عندما تدخل أحد الحضور ليوضح أن من آليات العمل الخيري المؤسسي في البلاد هو تقديم صور وتقارير دورية حول أوجه الإنفاق، وأن هذا لا يقدح في ذمة أحد، بل يعزز من الشفافية، ودلل على ذلك بمواقع المنظمات الخيرية البريطانية.
المؤسسات العامة في العالم العربي غير مهيأة للتعامل مع الوجوه السياسية المتغيرة مثلما هو الحال في الدول الغربية. وتكشف لنا كثير من التقارير أنه حتى الأنظمة السلطوية تحتاج وقتا حتى تستطيع أن تطوع هذه الأجهزة وتضمن ولاءها
سيكون من الصعب أن تجد المعارضات العربية مساحات لإدارة الوزارات والمؤسسات الحكومية، لكن بمقدورها أن تضع تنمية المهارات الإدارية ضمن أهدافها. وهي خبرة نظرية متاحة في مختلف الجامعات حول العالم ولدى كثير من منصات التعليم الالكتروني. ولو استعانت ببعض الكفاءات الإدارية في إدارة مؤسساتها وشئونها فسيوفر هذا خبرة عملية أخرى متراكمة على صعيد إدارة المؤسسات والشركات.
إن المؤسسات العامة في
العالم العربي غير مهيأة للتعامل مع الوجوه السياسية المتغيرة مثلما هو الحال في الدول الغربية. وتكشف لنا كثير من التقارير أنه حتى الأنظمة السلطوية تحتاج وقتا حتى تستطيع أن تطوع هذه الأجهزة وتضمن ولاءها رغم قبضة القهر التي تستخدمها. وبالتالي، فهناك حاجة لصياغة تصورات إدارية للتعامل مع هذه المؤسسات لرفع كفاءاتها في أي مرحلة من مراحل الانتقال الديموقراطي.. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
twitter.com/hanybeshr