قضايا وآراء

حزب العدالة والتنمية التركي (AKP) وتقاعد الحرس القديم

موسى عكاري
1300x600
1300x600

يعتبر حزب العدالة والتنمية التركي (AKP) وريثا لأحزاب سياسية ذات طابع إسلامي، ابتداء من حزب النظام الوطني الذي تأسس عام 1970، ومن ثم حزب السلامة الوطني عام 1972، وحزب الرفاه عام 1983 وأخيرا حزب الفضيلة عام 1998 الذي كان يرأسه نجم الدين أربكان والذي تم حله عام 2001، فانقسم بعده الحزب إلى فريقين ليؤسس كل فريق بعد ذلك حزبا سياسيا مستقلا عن الآخر، فكان الأول بقيادة محمد رجائي قوطان والذي أسس حزب السعادة (SP)، معتبرا أن حزبه هو الوريث الشرعي لحزب الفضيلة المنحل، والثاني بقيادة رجب طيب أردوغان والذي أسس حزب العدالة والتنمية(1).

شخصية كارازماتية

أما شخصية رجب طيب أردوغان فقد بدأت بالظهور بعد فوزه برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى عام 1994 في كل نواحيها، حيث استطاع عبر توليه رئاسة البلدية من تحقيق إنجازات كبيرة في مجال التطوير والخدمات التي بدأ يشعر بها سكان مدينة إسطنبول.

أما بروز شخصيته على مستوى الجمهور التركي فقد كان في 12 كانون الثاني/ يناير عام 1997، بعد مشاركته في مؤتمر شعبي عقد في مدينة سيرت، حيث خطب أردوغان الجماهير بعدة أبيات شعرية للشاعر ضياء غوك آب قال فيها: "مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمؤمنون جنودنا.. هذا هو الجيش المقدس الذي يحرس ديننا..". وقد أثارت هذه الأبيات حفيظة السلطات التركية التي رفعت دعوى قضائية ضده، وبالتالي حُكم عليه بالسجن لمدة عشرة أشهر في سجن بينار حصار في مدينة كيركلارالي غرب تركيا، قضى منها أربعة أشهر. كما أُقيل من منصبه كرئيس لبلدية إسطنبول الكبرى ومُنع من ممارسة أي دور سياسي في المستقبل.

غير أن أردوغان تصرف بعد الحكم عليه بدون مبالاة لهذا الحكم، حيث خاطب مؤيديه المعتصمين خارج مبنى المحكمة بأن "هذه الأغنية لم تنته بعد"(2). وبعد أن أُقيل أردوغان من رئاسة البلدية قامت شركة سوبر أون لاين التركية في تلك الأيام بإجراء استطلاع للرأي العام عبر سؤال: "من هو أكثر رئيس للبلدية قدم خدمات في إسطنبول؟"، وكانت نتيجة الإجابة على هذا السؤال هو حصول أردوغان على نسبة 90,4 في المئة(3).

من الجدير ذكره أن ما تعرض له رئيس بلدية إسطنبول رجب طيب أردوغان من سجن وإقالة لم يكن حدثا فريدا، فقد جاء في سياق من الأحداث العارمة التي شهدتها الساحة السياسية الداخلية، حيث تم إجبار رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان على تقديم استقالته في 28 شباط/ فبراير 1997، وذلك على أثر المخاوف التي شعر بها الحرس القديم من العسكر والتيار الكمالي من مشروع الأسلمة "الأربكاني" المناهض للأفكار الأتاتوركية.

وقد تدهورت العلاقات بين حكومة نجم الدين أربكان والعسكر بعد "حادثة سنجان"، وتمثلت هذه الحادثة بالدعوة لانعقاد مهرجان بمناسبة "يوم القدس" في 31 كانون الثاني/ يناير 1997 برعاية رئيس بلدية سنجان بكر يلدز، المحسوب على حزب الرفاه الإسلامي الحاكم. وكان من بين المدعوين السفير الإيراني في تركيا، وممثل م.ت.ف، ومحمود ابن الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وممثلون من حزب الله اللبناني.

وبينما خطب السفير الإيراني قائلا: "إن هؤلاء الذين يعقدون الاتفاقيات مع الولايات المتحدة وإسرائيل سوف يُعاقبون من الشباب الاتراك عاجلا أم آجلا"، استشاط قادة العسكر غضبا فأرسلوا ثلاثين دبابة مدرعة لاعتقال رئيس البلدية الذي قام بتنظيم هذا المهرجان، وذلك دون الرجوع إلى رئيس الحكومة نجم الدين أربكان، الأمر الذي أدى إلى اتساع الشرخ بين العسكر وحكومة أربكان. على إثر ذلك وتبريرا لتدخل العسكر، فقد كتبت بعض الصحف المقربة من العسكر على صفحتها الأولى: "هل تصبح تركيا إيران ثانية؟".

وفي 28 شباط/ فبراير 1997 اجتمع مجلس الامن القومي التركي وقرر رفع مذكرة إلى رئاسة الوزراء؛ تضمنت 18 مطلبا على الحكومة تنفيذها أو تقديم الاستقالة، وتمت الموافقة من جميع أعضاء المجلس على المذكرة عدا نجم الدين أربكان، الامر الذي أدى إلى إقالته والانقلاب عليه "انقلابا أبيض"(4).

وفي 14 آب/ أغسطس عام 2001 وفي أحد فنادق أنقرة، جرى الإعلان عن تأسيس حزب العدالة والتنمية، وجرى إشهار أعضائه المؤسسين الذين كانوا 74 عضوا، بينما لم يكن بينهم أحد من نواب حزب الفضيلة السابقين، خشية أن يُعتبر الحزب الجديد صيغة جديدة من حزب الفضيلة الذي تم حظره.

وقد قدم رئيس الحزب الجديد رجب طيب أردوغان خطابا استمر 40 دقيقة، شرح فيه أهداف الحزب كحزب ديمقراطي محافظ يتمسك بمرجعيته الدينية، يعمل على تحقيق الحريات العامة والرفاه والاستقرار للمواطن التركي، ويسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أشار أردوغان في خطابه بالقول: "بدل أن يهاجر أبناؤنا إلى أوروبا نسعى إلى جلب أوروبا إليهم". وبعد انتهاء فعاليات المؤتمر أعلن مؤسسو الحزب الجديد أنهم سيزورون ضريح مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك(5).

مقاربة الوسط

لقد نحج الحزب الجديد (حزب العدالة والتنمية) والذي خرج من عباءة نجم الدين أربكان، في الظهور كحزب إصلاحي يرفض أن يُطلق عليه "حزب إسلامي" من جانب، كما يرفض تجريد تركيا من هويتها الإسلامية من الجانب الآخر. وبذلك استطاع حزب العدالة والتنمية أيضا أن يُنجز تصالحا بين التيار الإسلامي الوسطي والتيار العلماني المعتدل، ليُنهي بذلك حالة التجاذب التي كانت قائمة ما بين غلاة العلمانية والحركة الإسلامية، والتي ساهمت بشكل كبير في الانقلابات العسكرية المتكررة في تركيا، وفي حالة عدم الاستقرار التي سادت سنوات طويلة.

وبذلك فقد أنشأ تياراً وسطاً يجمع بين المقاربات الفكرية والسياسية المختلفة، مستفيداً من تجربة الصدام المتكررة التي سادت بين الحركة الإسلامية وغلاة العلمانية الكمالية، بتقديم نموذج سياسي فريد يجمع ما بين الأصالة التي نادت به الحركة الإسلامية وما بين الحداثة التي نادت به التيارات العلمانية الكمالية. واستطاع حزب العدالة والتنمية وبشكل غير مباشر استعادة الإسلام كركن أساسي في الهوية التركية الحديثة، عبر استدعائه في الإطار الاجتماعي دون الإطار السياسي، وبتقديمه للمشروع الإصلاحي على المشروع الأيديولوجي(6).

رعب الحرس القديم

بفضل هذه المقاربة الجديدة استطاع حزب العدالة والتنمية أن يستقطب جمهورا واسعا من كافة التيارات القائمة، والتي جمعتها فكرة عدم القبول بقدسية الأيديولوجية الكمالية، ورفض هيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي والحكومات المنتخبة. إلا أن ذلك لم يمنع الحرس القديم في محاولاته من عرقلة صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. ففي 20 أيلول/ سبتمبر 2002 وقبيل إجراء الانتخابات البرلمانية التركية بأيام معدودة، قررت لجنة الانتخابات المركزية منع رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان من الترشح للانتخابات، مستندة إلى البند 312 من قانون العقوبات التركي، الذي يمنع أي مرشح ذو سوابق جنائية من الترشح للانتخابات البرلمانية، الأمر الذي قوبل بالارتياح من قبل قادة الجيش من جانب، بينما أدى إلى تصادم المؤسسة العسكرية مع الرأي العام التركي من الجانب الآخر.

وقد أبدت بعض الصحف التركية سخطها على قرار لجنة الانتخابات، فبعد قرار اللجنة بيوم واحد وفي 21 أيلول/ سبتمبر 2002 كتب ايلنور تشيفيك المحرر في صحيفة Turkish Daily News: "لم يتغير شيء بعد انقلاب عام 1980 الذي أطاح بسليمان ديميريل وبولنت أجاويد. لقد تمت مصادرة حق الشعب مرة أخرى من التصويت للمرشحين المحظورين. قرار لجنة الانتخابات لم يستهدف المرشحين فقط، بل استهدف إرادة الشعب".

كذلك فقد هاجم الصحفي المشهور مهمت علي بيراند قرار لجنة الانتخابات عبر نفس الصحيفة بتساؤله: "وماذا بخصوص المرشحين الآخرين من نواب المجلس النيابي المتهمين بقضايا الفساد والسرقة وحتى القتل؟ إما أن يتم منع جميع الفاسدين من الترشح أو فليسمحوا للجميع، أما الكيل بمكيالين فلا". وأضاف بيراند أن "الغاية من وجود نظام قضائي هو الحفاظ على القواعد الديمقراطية، بينما قرار حظر أحزاب معينة أو قيادات هذه الأحزاب من الترشح هو قرار متروك للشعب؛ يمكن أن يُعبر عنه عبر صندوق الاقتراع. قرار حظر ترشح الأحزاب بشكل متكرر هو قرار يتناقض مع المفاهيم الديموقراطية الغربية"(7).

صدور قرار لجنة الانتخابات التركية بحق رئيس حزب (AKP) رجب طيب أردوغان لم يمنعه من المضي مع حزبه إلى الأمام، حيث تعامل مع القرار وكأن شيئا لم يكن، مدركا أن الحرس القديم كان يصارع على البقاء، وأن المقاربة السياسية والاجتماعية التي يقودها حزبه تحظى بالرضى والقبول لدى الجماهير التركية.

وقد انعكس هذا الرضى الجماهيري عبر فوز حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2002، وإحالة الطبقة السياسية القديمة إلى التقاعد بعد أن حصل على فوز يؤهله لأن يمسك بزمام الحكم منفردا دون الحاجة إلى تحالف مع قوى المعارضة، حيث حصل الحزب على 34.3 في المئة من أصوات الناخبين، و363 مقعدا من أصل 550 مقعدا في البرلمان، فيما حصل حزب الشعب الجمهوري (CHP) على نسبة 19,4 في المئة، أما حزب (SP) بزعامة محمد رجائي قوطان فلم يتجاوز نسبة الحسم (10 في المئة)، حيث حصل حزبه على نسبة 2,5 في المئة، وبذلك لم يحصل على أي مقعد من مقاعد البرلمان الجديد(8).

أخيراً، من الجدير ذكره أن حكم العزل السياسي الذي صدر بحق رجب طيب أردوغان من قبل لجنة الانتخابات التركية قد منعه بعد فوز حزب العدالة والتنمية من تولي منصب رئيس الوزراء، فيما تولى هذا المنصب بشكل مؤقت زميله عبد الله غول، ثم تمكن رجب طيب أردوغان بعد ذلك من تولي هذا المنصب في شهر آذار/ مارس 2003 بعد إسقاط الحكم عنه(8).

عبور الجسر

أخيراً، فإن نجاح حزب العدالة والتنمية في الوصول إلى الحكم لا يمكن تجريده من المقاربة الواقعية الجديدة التي جاء بها أردوغان ورفاقه، حينما أظهروا مرونة وبراغماتية كافية تؤهلهم في تجاوز الجسر الذي يضمن لهم الوصول إلى الحكم، وقد عدّلوا في هذا الجسر مراراً وتكرارا حتى أصبح آمناً لوصولهم إلى السلطة. هذه الفلسفة هي ما ميّزتهم عن أستاذهم الراحل نجم الدين أربكان الذي كان أيديولوجياً صلباً.

واقعية حزب العدالة والتنمية اعتبرت أن فهم الواقع هو أول خطوة في عملية مسك الخيوط وتحريكها، فعرفت كيف تتعامل مع كل الظروف، كل ظرف حسب طبيعته وخصوصيته. هذه الواقعية التي بدأت على المستوى السياسي الداخلي في تقديم برامج اجتماعية ومشاريع خدماتية وخطط تنموية لصالح الشعب التركي، في محاولة للحفاظ على الرأي العام لصالح الحكومة الجديدة بغية الحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي، قد انعكست أيضاً على السياسة الخارجية، وبدا ذلك واضحاً بعد مراجعة الحكومة الجديدة للسياسة الخارجية التركية وتموضع تركيا ضمن موازن القوى الإقليمية والدولية.
__________
الهوامش:

1-  Hürriyet (14.8.2011)
2-  كينزر، 2014: 175.
3- حسين، وأوزباي، 2011: 296.
4- İsmail, 2014: 99-100
5- حسن،2006: 196
6- الانصاري، 2006: 57
7- Turkish Daily News: 21.9.2002
8- حسن،2006: 202 
9- عبد الحكيم، 2013: 190 

المراجع:

 

الأنصاري، أحمد (2006) تركيا والعهد الجديد (المكتب الإسلامي: بيروت).

حسن، ياسر (2006) تركيا البحث عن المستقبل (الهيئة المصرية العامة للكتاب: القاهرة).

كينزر، ستيفن (2014) العودة إلى الصفر، إيران تركيا ومستقبل أمريكا (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر: بيروت).

بسلي، حسين، عمر اوزباي (2011) رجب طيب أردوغان قصة زعيم (الدار العربية للعلوم، ناشرون: بيروت).

عبد الحكيم، منصور (2013) تركيا من الخلافة إلى الحداثة، من أتاتورك إلى أردوغان (دار الكتاب العربي: دمشق).

Gülmez, İsmail (2014) 28 Şubat 1997 Askeri Darbesi ve Türk Eğitim sistemine Etkileri (Atatürk Üniversitesi: Arzurum).

Turkish Daily News: 21.9.2002.

Hürriyet (14.8.2011) Adalet ve Kalkınma Partisi kuruldu.

https://www.hurriyet.com.tr/gundem/adalet-ve-kalkinma-partisi-kuruldu-38258548

التعليقات (0)