أخبار ثقافية

كواليس الطقس السحري

يحاول الأنثروبولوجيون اكتشاف الأسرار المختبئة في العالم السحري- أرشيفية
يحاول الأنثروبولوجيون اكتشاف الأسرار المختبئة في العالم السحري- أرشيفية

لا يزال السحر مؤثراً وفعالاً في عالمنا العربي، ولا يزال الناس يترددون إلى الشيوخ والمعالجين للتعامل مع أزمات جسدية ونفسية.

 

يستمد هذا العالم سحره وشرعيته من النصوص والطقوس الدينية التي تعترف بالسحر وقوته، ويقدم تراثنا تصورات للذهنية السحرية يشارك بها الشخص العادي أيضا من خلال قدرته على "الإصابة بالعين" أو "الحسد".

 

بهذا تتوسع دائرة الفعل السحري ليشمل ثقافة اجتماعية تتجاوز بيئة الساحر الخاصة والغامضة، وتقدم الذهنية السحرية حلولاً تستطيع مواجهة ذلك العالم والتأثير به بطرق علاجية تعتمد على شبكة من العلوم والمعارف حفظتها وتداولتها الشعوب والثقافات.

يحاول الأنثروبولوجيون اكتشاف الأسرار المختبئة في العالم السحري وتفسير كيف لمجرد كلمات أن توقع تغييراً في خصائص الإنسان النفسية والبدنية.

 

لا يزال للكلمات وقعها السحري أو كما يسميه الأنثروبولوجي برونسيلاف مالينوفسكي "مجازا مبدعا" قادرا على التسلل إلى مخيلة الإنسان وجعله مؤمناً بقدرته على الفعل والتأثير.

 

يحاكي بذلك السحر قناعات وأحلام تنتمي للواقع محاولة السيطرة والتأثير عليه، وقد انصب تركيز مالينوفسكي على الجانب التقني والوظيفي للّغة السحرية ولكن لفهم هذه التقنية كان عليه أن يشارك المؤمنين بها حياتهم اليومية ليلاحظ أننا لا نستطيع فهم السحر إلا من خلال تناول القوة الاجتماعية والثقافية التي تربط المعتقدات بالتلفظ أو الفعل السحري.


الطقس السحري


لا يكون السحر طقساً إلا بارتباط مستمر مع عناصر ثابتة يعززها محيط باستطاعتنا مراقبته وفهم منطقه الخاص. ومن هنا نستطيع التحدث عن السحر كظاهرة اجتماعية لا تقتصر فقط على الإيمان الفردي بقوة الساحر أو فاعلية التمائم. يفسر الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس في نظريته البنيوية الطقس السحري بما يتضمنه من أعراف يُبث من خلالها الكلمات السحرية بشكل فاعل.

 

يفسر ستروس البنية السحرية من خلال "المركب الشاماني" وهي ثلاثة عناصر أساسية تشارك في تشكيل الطقس السحري الذي يشارك به الساحر أو المعالج، المريض وتفاعله أو عدمه، ومن ثم الجمهور الذي يشارك التجربة السحرية. 

بالإضافة إلى ترابط عناصر المركب الشاماني لتشكيل التجربة السحرية، فإن كل عنصر يساعد على تشكيله مجموعة من العلاقات والأعراف المنتمية إلى الذاكرة الجماعية. ولأننا نتصرف ونفكر بحكم العادة كما يقول ستروس، فإن كثيرا من "اللاوعي الجمعي" سيكون قابعا خلف كواليس الطقس السحري.

 

نستطيع إذاً أن نفهم الظاهرة المنتشرة في التعامل مع السحر والعلاج منه في مجتمعاتنا من خلال هذا المفهوم البنيوي والذي يفسر لنا كيف يعمل السحر بمعزل عن الإيمان به.

المعالج الروحي

نظر الأنثروبولوجيون للمعالج الروحي كوسيط له قوة سحرية للسيطرة على العالم الروحي تتشكل من خلال تطويره لتقنيات خاصة. يعزو ليفي ستروس تأثير المعالج لشخصية الوسيط الروحي وتجربته الروحية التي تجعل منه مؤمناً بما يقوم به.

 

يعرف عن السحرة أنهم مجموعة خارجة عن نظام المجتمع المألوف، عادة ما يكونون منعزلين في أماكن سرية أو خاصة جداً. أما بالنسبة للمعالجين الروحيين فهم عادة ما يكونون أكثر ظهوراً وأكثر تقديراً واعترافاً من المجتمع. ولأنهم يقدمون للمجتمع خدمة، فهم يتحركون ضمن ما يتوافق عليه أبناؤه ويتوقعه منهم. تخلق مكانة المعالج وتجربته الروحية علاقة متبادلة بين ما يفترضه المريض عن المعالج وما يتوقعه المعالج بالمقابل.

 

تقوم فكرة القوة التي يمتلكها الشيخ بتحفيز المريض ليسلّم له -رمزيا- المصدر المسيطر والمتحكم به، مشاركا الشيخ تجربة الإمساك بهذا المصدر. يتفاعل المريض أو يستسلم لسلطة ذلك المعالج تاركا له مكانة يستطيع من خلالها إلقاء الأوامر أو تهديده ولو بالضرب. تعتبر لحظة التسليم هذه لحظة حاسمة على المعالج أن يتواصل من خلالها مع المريض معلناً عن "فك السيطرة".

 

يعتبر الإعلان عن "فك السيطرة" أو "إزالة العقد" كما يسميها ستروس، اللحظة التي ينقل المعالج فيها وعي المريض نحو إتمام عملية الشفاء. تبرز هنا ثقة المعالج التي لن يؤثر عليها حتى فشل العلاج إذ قد يبررها بقوة السحر أو ضعف إيمان المريض، أما تقنيات العلاج فهي أكثر رسوخاً من أن يتم التشكيك بها.


الضحية

إن كانت فكرة المجتمع عن المعالج تعد مؤثراً جوهرياً في فاعلية العلاج فإن فكرته أيضاً عن المريض لا تقل تأثيراً. نعرف من قصص كثيرة حولنا كيف يفسر البعض مشاكل اجتماعية بربطها بحدث خارجي أو طرف ثالث يجعلهم أكثر تقبلاً لتلك التصرفات الشاذة دون فقدان الأمل في عودة الأمور إلى طبيعتها.

 

إن فكرنا بما يقوم به المجتمع من تحويل المريض أو حتى المعتدي إلى مسحور وبالتالي إلى ضحية، فربما استطعنا فهم لماذا قد يفضّل البعض صفة "مسحور" على "مريض".

 

ففي الوقت الذي ما تزال مجتمعاتنا تنفر من فكرة العلاج النفسي، فهي تقوم بتوفير حماية لمن يقع ضحية للسحر مقدمة له تعاطفها ودعمها. تختلف هذه الفكرة عن فكرة المريض الذي يقف وحيدا لمواجهة العيادة النفسية التي ما زالت دخيلة على مجتمعاتنا وغير قادرة على تقديم كثير من الأجوبة. أما في العالم السحري، فإن المجتمع يتواطأ مع الضحية في علاقة ستجعله يقدم على العلاج بكل ثقة.

 

وبدوره، يقوم المعالج بتعزيز هذه الصورة لدى المريض أو المسحور ليشاركه تجربة السيطرة على تلك القوة الخارجية حتى يتحول في النهاية من ضحية إلى بطل بعد أن استطاع السيطرة.

الجمهور

يقدم المعالج عرضاً مشتركاً مع المريض أمام جمهور سيكون هو السبب الرئيسي في إتمام عملية العلاج كما يرى ليفي ستروس. نستطيع اعتبار عائلة المريض البنية الأساسية لهذا الجمهور. تخبرنا قصص العلاج من السحر أن كثير من المرضى يتم إقناعهم بوقوع السحر عليهم من خلال محيطهم، لذلك دائماً ما يكون المريض محاطا أثناء العلاج بأفراد من عائلته ومجتمعه قد تصل قوتهم في إجباره أحياناً للخضوع للعلاج.

 

تتحول العائلة إلى أداة ضغط جماعي تدعم تلك العلاقة الناشئة بين المريض والمعالج لاعتقادها بأهمية ذلك التفاعل.


إن دور المجتمع الذي يسهل من عملية العلاج ويدعمها لا يقتصر فقط في حالات فردية، بل يقع دوره في تمرير الأسطورة السحرية لتتحول عبر التاريخ إلى جزء من ذاكرتنا الجماعية. تقدم المخيلة الشعبية عالم السحر بشكل متجدد لن يهدده التشكيك به أو عدم الإيمان. وربما كان وعينا الجمعي يقود البعض نحو السحر وعوالمه إلا أننا لا نزال نجهل ما يترسب في اللاوعي الجمعي من قصص الجن والسحر والتلبس وكيف تؤثر بأفكارنا وسلوكنا.

 

وربما شكل ذلك اللاوعي الجمعي قوة سحرية بحد ذاته تجعل السحر فعالاً بين أوساط غير مؤمنة به أحياناً لتجاوز قوته الإدراكية وتغلغله في عوالمنا الغامضة والمختبئة عن عالم المعقول والمحسوس.
 
لماذا التفكير بالسحر؟

كان عالم السحر ركناً أساسياً لقصص نشأنا عليها منذ نعومة أظفارنا. اختلطت روايات الجن والسحر والشعوذة مع قصص الأنبياء والصالحين الذين نقلوا لنا أدوات التحصن والعلاج وبعض أسرار تلك العوالم.

 

وكأي فلم رعب متقن، كانت تلك القصص تخيفنا دون أن تقضي على متعة الاستماع إلى قصص الجن والممسوسين به. ودون أن نفهم لماذا علينا التوقف عن اللعب مع غروب الشمس، فهمنا أن هناك عالم خفي علينا احترامه وتجنب مخاطره. كان ذلك عالما منسجما مع حياتنا اليومية قبل أن يتحول الآن إلى عالم غريب يستبدله العلم باعتباره بديلاً تفسيرياً للعالم.

لا يُهاجم السحر من قبل العلم فقط وإنما يصوره الإعلام بأنه عالم ينتمي إلى المجتمعات الفقيرة والجاهلة ويربطه بالجرائم بشكل واسع مما يزيده شبهة. يحط المجتمع المثقف أيضا من قدر السحر ويتعامل معه باعتباره خرافات ووهم علينا كشفها للناس ومحاربتها مهملين أو متناسين عراقة هذا العالم وتجذره في ثقافتنا.

 

لكننا نعلم أن إنكار السحر والتعامل مع العالم بشكل عقلاني لم يمسح عنه لمسة السحر ولا تفاعل الناس معه، ولكنه زاد اغترابنا عن ذلك العالم وساعد على ازدياد ظواهره غرابة وغموضاً. 

أما بالنسبة للأنثروبولوجي، فإن القصة تختلف، فهو يعتبر هذا العالم حقيقي بقدر ما يؤمن به أهله وبقدر فاعليته أثناء الممارسة. وبالتالي فإن أنثروبولوجيا السحر تعمل كحلقة وصل بين عالمين متنازعين ومغتربين محاولة تفسير ظواهر غامضة ارتبطت بوجود الإنسان منذ القدم. إنها تقدم كواليس الظواهر السحرية بشكل يحافظ على سحريتها دون نزعها عن بيئتها التي نشأت وتجذرت فيه، وذلك من خلال الاعتراف بفاعليتها وفهم منطقها الخاص.

 

ولأن السحر لا يعمل إلا من خلال محيطه الذي كان سببا في استمراره وفاعليته، فإن هذه محاولة لتحفيز خيالاتنا لنقترب أكثر من هذا العالم الذي شكل ركيزةً لذاكرتنا ولا يزال مشاركاً في ثقافتنا.

التعليقات (2)
MAEADH
السبت، 03-10-2020 10:31 ص
السحر موجود مزكور في القران والجن والشياطين كائنات اومخلوقات موجودة ولها تاثير علي الانسان الغير محصن منهم لانهم موجودون في الارض قبلنا حتي جملة بسم الله الرحمن الرحيم تفصل بين النسان والجان يترك المكان لكن يجب ان لا يكون الخوف منهم وانت انسان تصلي تحصن نفسك واهلك وبيتك هو ضعيف امام ايات الله سبحانة وتعالة وانا لي تجربة معهم عندما اهملتا صلاتي وتحصيني ولكن بحمد الله عندما واظبت شفيت والحمد الله
sandokan
الخميس، 24-09-2020 11:42 ص
^^ السحر و الشعودة أباطيل و أوهام ^^ و بدأت الشعوذة في بابل القديمة حيث كانوا البابليون يعتقدون أن الشياطين تسكون الأماكن المظلمة و المجورة و تتربص البشر كان يخروجها كاهين متخصص يدعى أشير إعتقدوا أن الجان تسكون الحمامات ( و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) طاسةُ الجان : هي طاسة نحاسية كانت توضع داخل الحمامات ، و الجان هو نوع فاخر من النحاس كانت تصنع منه هذه الطاسات و ربما من هنا نشأ الإعتقاد أن الجان يسكنون في الحمامات حيث القليل من الناس يعلمون أن كلمة : الجان تعني النحاس و ليس الجن .. السحر : هو كل أمر خفي و لا يوجد له تفسير منطقي ، و السحر تفسير سهل و موزيّ لكل شيء لا تُعرف حقيقته .. فالإنسان السلم المعافى يتحرك و يُبدي مشاعره ، نتجة كم هائل من المؤثرات : الكهربائية العصبية و الكيميائية في الغدد .. بشكل منتظم تماماً ، أمَّا إذا إختل أيُّ من هذه المؤثراث ، تختلُّ كلُ الوظائف : الكلام و الحركات و التصرُّفات ... ، و تبدو غريبة جداً ، كأن تتكلم إمرأة بصوت رجل مثلاً ، و الواقع أنها حالة مرضيّة بحاجة لمعالجة طبية ، لأن هذا المرض هو : خلل في الطاقة و علينا أن لا نخاف من فلان كاتب لنا سحر و فلان مربط بسبب ساحر .. الإنسان هو أكثر الكائنات تأتراً في وجدانه و هذه الفعالية الإنسانية النفسية أحياناً تدفع حتَّى الإنسان الأمي بأن يتحدّت و يقرأ حتّى بِلغَات أخرى و هذه حالة مرضية .