هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما الذي، في نهاية المطاف، اقترفه الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو من خطيئة نكراء، حتى استحق من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تلك الغضبة الحادة، على الملأ؟ «ما فعلتَه، بالنظر إلى حساسية الموضوع، وما تعرفه عن حال هذا البلد، سلوك غير مسؤول. غير مسؤول تجاه فرنسا، وغير مسؤول تجاه المعنيين بالأمر، وخطير لجهة أخلاقية المهنة (…) أتكلم معك بصراحة، ما فعلتَه خطير، غير مهني، وصغير»؛ قال ماكرون، وجها لوجه أمام مالبرونو.
ليس المرء مضطرا إلى الاتفاق مع مالبرونو
(وشخصيا أختلف مع معظم كتاباته، قسط غير قليل من سلوكياته المهنية)، كي يسانده
إزاء هذا التوبيخ الرئاسي غير المألوف؛ خاصة وأنّ قصر الإليزيه لم يكذّب ما نقله
مالبرونو عن اللقاء الذي جمع ماكرون مع محمد رعد، رئيس كتلة «حزب الله» في مجلس
النواب اللبناني. بل لعلّ المرء ذاته قد يجد صعوبة في تأويل مفهوم «الحساسية» الذي
أثار غضب ماكرون، إذْ إنّ ما نقله مالبرونو كان تقديرا سياسيا فرنسيا بصدد «حزب
الله» معروف وقديم وغير خاف على أحد. فمَن كان يجهل أنّ فرنسا تدرك هوية الحزب
وارتباطه بإيران، أو لا تقرّ أنشطته في سوريا واليمن؟ وإذا أجاز رعد لنفسه
الامتناع عن تأكيد هذه الدردشة أو نفيها، من باب أنّ «المجالس أمانات» كما قال؛
فما الذي يجبر صحافيا محترفا على الاقتداء بالأخير، وحفظ الأمانة مثله؟
والحال أنّ نهج مناجاة الرموز الذي اعتمده
ماكرون خلال الزيارة الثانية تحديدا، أي الحرص على أن يكون بيت السيدة فيروز هو
محطته الأولى، ثمّ غَرْس أرزة احتفاء بمئوية «لبنان الكبير» الذي المندوب السامي
الفرنسي الجنرال غورو، وتحليق قاذفات فرنسية نفثت ألوان العلم اللبناني؛ لم يوفّر
الصحافي الفرنسي عاثر الحظ أيضا. كان مطلوبا، على نحو ما، الاحتفاظ بنقاء المستوى
الرمزي لزيارة رئيس قوّة عظمى، صاحبة مشروع استعماري قديم في المشرق هذا، بدأ مع
نابليون بونابرت ويتواصل موضوعيا مع إواليات استعمارية جديدة. والرمز الأعلى هو
ماكرون، القادر على استقبال الجميع في قصر الصنوبر، مقرّ إعلان «لبنان الكبير»
إياه، من موقع الأب الرؤوم، أو الأمّ التاريخية لمَنْ يشاء؛ الذي لم يكن هو الذي
انتخب رعد وكتلة «الوفاء للمقاومة» كما ذكّر سائليه، ويستقبله استطرادا بصفته
ممثلا لناخبيه من اللبنانيين.
وهو، إلى هذا، نهج يلبّي مصالح فرنسا الحيوية،
غنيّ عن القول، ولا مفاجأة هنا إلا عند سذّج التاريخ؛ سواء وقعت التلبية ضمن
مقاربة ماكرون نفسه حاليا، أم كانت تتماشى أيضا مع مقاربات غالبية رؤساء الجمهورية
الفرنسية الخامسة، ابتداء من فرنسوا ميتيران وجاك شيراك، وصولا إلى نيكولا ساركوزي
وفرنسوا هولاند وساكن الإليزيه الحالي. لا مفاجأة، كذلك، في خصوصية العلاقة بين
فرنسا ولبنان، حتى إذا لاح أنّ ما يبقى منها اليوم يكاد أن ينحصر في استقرار درجة
من الفرانكوفونية لم يعد يُعثر عليها في معظم مستعمرات فرنسا. وثالثا، ورغم «العقد
السياسي الجديد» الذي يحثّ ماكرون الساسة اللبنانيين على تأسيسه، لا يبدو النهج الماكروني
مزمعا على نكران الصياغات الطائفية كما تمّ تثبيتها في اتفاقية الطائف؛ وليس ترويج
الإليزيه لشخص مصطفى أديب، رئيس الحكومة المكلف، بل الضغط من أجل تمريره كما تردد
على نطاق واسع؛ سوى أحدث الأدلة في هذا المضمار.
ورغم أنّ اقتباس المفكر
الإيطالي الماركسي أنتونيو غرامشي (1891 ـ 1937) بات، في الآونة الأخيرة، «موضة»
لدى الكثير من ساسة فرنسا، فيقتبسه يمينيون من أمثال ساركوزي أو يساريون على غرار
جان ـ لوك ملنشون؛ فإنّ لجوء ماكرون إليه كان تذكرة بمبدأ السيطرة من دون هيمنة،
أكثر ربما من المبدأ الذي أعلنه الرئيس الفرنسي خلال مؤتمره الصحافي الأخير في
بيروت، حول قديم يموت وجديد يجد صعوبة في الولادة. المبدأ الأوّل أقرب إلى
«الفلسفة» الماكرونية عموما، حول فرنسا وشجونها الداخلية السياسية والاجتماعية
والاقتصادية، وشؤون موقعها على الخريطة الكونية إجمالا، ثمّ في الشرق الأوسط خاصة.
كتابه «ثورة: مصالحة فرنسا» الذي صدر في سنة 2017 خلال حملته الرئاسية وقبيل
انتخابه، يستعيد غرامشي على هذه الخلفية تحديدا؛ حيث السيطرة الثقافية (التي تتضمن
«مجتمع الـStartup» أيضا) مدخل ناجع إلى السياسة والاقتصاد والإصلاح.
غير أنّ عبارة غرامشي الشهيرة لا تقف عند هذه
المعادلة الثنائية، بل تستكملها بالحدث عن «أعراض مرضية» عديدة تتخلل الفترة بين
الموت والولادة؛ والأرجح أنّ ماكرون تفادى إكمال العبارة خلال المؤتمر الصحافي في
بيروت لأنه كان قد رأى ما يكفي من أعراض الاعتلال، وأسمع اللبنانيين الكثير عنها،
فبلغ في هذا درجة التلميح إلى مخاطر زوال لبنان، سواء «الكبير» القديم أم «الصغير»
الجديد، في المسافة القصيرة الفاصلة بين قصر الصنوبر ومرفأ نترات الأمونيوم. وتلك
أعراض لا تقتصر على النظام السياسي اللبناني، الذي ينتفض غالبية أبناء لبنان ضدّه
ويطالبون بتغييره جذريا، فحسب؛ بل هو أيضا ذلك الركام الطويل من سياسات فرنسا
الأمّ في احتمال المنظومة والنظام، والتعامل معهما، وإدامتهما على نحو أو آخر،
ومدّهما بأسباب البقاء والتكاثر.
سلف ماكرون، الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي،
تعهد ذات يوم بإعادة تأهيل النظامين الليبي والسوري في ناظر ما يُسمّى «المجتمع
الحرّ»؛ بذرائع شتى تراوحت بين عقد قمّة الاتحاد المتوسطي بأيّ ثمن، وتشجيع
الاعتدال، والنأي عن التطرّف، وتوقيع العقود. ثمّ طرح فرنسا ضامنا للسلام الأهلي
اللبناني وللمحكمة الدولية، وكانت الضمانة مسرحية على أكثر من نحو، خاصة خلال
زيارته الاستعراضية إلى بيروت صيف 2008، بعد انتخاب الرئيس اللبناني ميشيل سليمان،
صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية. ولقد توجّب على اليمين الفرنسي أن يشارك في
صناعة التأهيل تلك، فأقرّت الجمعية الوطنية (وكانت الأغلبية فيها لليمين)، مشروع
قانون يحظر على المحاكم الفرنسية قبول دعاوى ضدّ مجرمي الحرب، إلا إذا كانوا
يحملون الجنسية الفرنسية، أو كانت الجرائم المنسوبة إليهم قد ارتُكبت على الأراضي
الفرنسية.
ولعلّ التجديد الماكروني في حكاية التأهيل هذه
يتمثل في أنه يأتي من بوابة مزدوجة الإجراء: التلويح بالعصا، عن طريق فرض العقوبات
على الساسة أنفسهم الذين ينبذهم الشارع الشعبي؛ أو التلويح بالجزرة، بوسيلة منح
المُهل الزمنية ثلاثة أسابيع مرّة، وبعد ثلاثة أشهر مرّة أخرى. وعلى نقيض ساركوزي
الذي تفاخر بتدبّر انتخاب سليمان، من نافذة النظام السوري ودعوة بشار الأسد لحضور
العرض العسكري الخاص بعيد الثورة الفرنسية في قلب باريس؛ عفّ ماكرون عن توظيف
اتصالاته مع مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، أو ولي العهد السعودي محمد بن
سلمان، وصبّ جام غضبه على الصحافي الفرنسي البائس الذي أماط اللثام عن مخفيّ معلَن!
وفي زيارة 2008 حرص ساركوزي أن يكون الروائي
اللبناني الفرنكوفوني أمين معلوف في عداد الوفد المرافق له، من باب مغازلة الرمز
الثقافي أيضا؛ ولم يتضح، بدلالة ما أسفرت عنه الزيارة وآثارها اللاحقة، ما إذا كان
ساركوزي قد قرأ رواية «صخرة طانيوس» التي كانت قد صدرت قبل 15 سنة وفازت بجائزة
الكونغور الفرنسية الرفيعة. مرجّح، في المقابل، أنّ خَلَفه ماكرون لم يتلمّس درس
طانيوس، المواطن التراجيدي الذي تلتقطه رواية أمين معلوف عالقا بين شبكات فرنسية
وبريطانية وعثمانية ولبنانية، عاجزا عن القبض على هوية ما، أو حتى مناجاة الرمز!