هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في الأول من آب/ أغسطس سنة 2014 رحل عن عالمنا الفنان سعيد صالح بعد أن أكمل ستة وسبعين عاما ويوما واحدا، في سخرية لطيفة من الحياة. وهي سخرية تشبهه وتتسق مع ارتجالاته اللحظية التي طالما أخرجتْه عن نصوص مسرحياته، ليُضحك الحاضرين وليدخل السجن أيضا، بتهم تبدو جاهزة مشبوهة كما رآها جمهور سعيد صالح رحمه الله.
ولد سعيد صالح يوم 31 يوليو سنة 1938 بإحدى قرى المنوفية لأسرة متوسطة الحال. وحصل على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة سنة 1960. ظهر عشقه للتمثيل فانضم إلى فرق المسرح المدرسي، ثم اكتشفه الفنان حسن يوسف، الذي كان قد بدأ مسيرته الفنية قبله، فقدّمه إلى الفرق المسرحية التابعة للتلفزيون المصري.
وكانت "هالو شلبي" من طلائع مسرحيات سعيد صالح سنة 1969، أما أهم أعماله وأكثرها رسوخا في وجدان المصريين فهما مسرحيتا "مدرسة المشاغبين" سنة 1973، ثم "العيال كبرت" سنة 1979، اللتان اعتبرتا بداية مرحلة جديدة للمسرح الكوميدي في مصر.
وخلال مسيرة فنية حافلة، شارك سعيد صالح فيما يزيد على 500 فيلم و300 مسرحية، و35 مسلسلا تلفزيونيا و20 مسلسلا إذاعيا.
ومن أقواله المأثورة الذائعة: "السينما المصرية أنتجت 1500 فيلم، أنا نصيبي منها الثلث". ومنذ البداية تألق مع رفيق دربه عادل إمام، الذي أدّى معه أجمل أدواره في السينما والمسرح، وذاقا طعم النجاح معا، قبل أن تفرقهما اختياراتهما في الحياة.
اختار عادل إمام صحبة علية القوم ورجال السلطة والمال، وأصبح أحد أقرب الفنانين إلى السلطة في مصر، بينما انحاز سعيد صالح إلى الحرية دائما، وهو ما قاده إلى السجن، وحرمه الثراء والنفوذ، إلا في قلوب محبيه. وحين مال عادل إمام إلى نظام مبارك ميلا صريحا، انحاز سعيد صالح إلى ثورة يناير انحيازا صريحا.
حكت ابنته الوحيدة هند موقفه في صفحتها على فيسبوك، فقد كان يؤدي مناسك العمرة حينئذ وعاد بعد انتصار الثورة، وحين زارته هند بكى قائلا: "أنا كنت محبوس ومش عارف أرجع بلدي وأشارك في اللي حصل. اللي ماتوا دول أجدع مني ومن جيلي كله...".
كانت لسعيد صالح رؤية خاصة للحياة انسحبت على فنه أيضا. فقد انحاز لقيم البساطة والعفوية والصدق وأسَرَتْه النكتةُ الوليدة الطازجة، والضحكة النابعة من القلب، مهما كان ثمنها. اختار أن يكون قلبه على لسانه، وظل يدافع عن تعاطي الحشيش، وسيلته البسيطة للانبساط والفرح وبالتالي إسعاد الجماهير.
وكان يغني ويلحن أغنيات أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي كما ظل يؤمن بأن المسرح العربي في مجمله منقول عن المسرح الأوروبي الذي لا يمت إلى ثقافة المصريين بأية صلة؛ لذلك حرص على إضفاء الطابع المصري الشعبي الساخر على حواراته المسرحية، وبالطبع لم يستطع السيطرة على نفسه في ما يتعلق بالارتجال السياسي.
ففي كانون الأول/ ديسمبر 1981، شارك سعيد صالح في مسرحية "لعبة اسمها الفلوس"، فاتهمه مفتش الرقابة بالخروج عن نص المسرحية في مواضع تافهة، من مثل: "ابن العبيطة"، وقوله لممثلة أخرى: "مدّي بوزك على بوزي.."، كما اتهمه المفتش بخلع بنطلونه استجابة لإغراء البطلة، وهو ما لم يحدث.
وبناءً على محضر الرقابة أُحيل صالح وسعيد طرابيك ومدير المسرح إلى المحاكمة، ثم حُكم عليهم في فبراير التالي، بالسجن ستة أشهر مع غرامة مقدارها 50 جنيهًا، لكن محكمة النقض برّأتهم بعد ذلك.
لكنّ أعداء سعيد صالح لا يتعبون. فقد انتقل عرض المسرحية من القاهرة إلى الإسكندرية، فعادت الرقابة إلى تلفيق الاتهامات لسعيد، وصدر قرار من المحكمة بحبسه سبعة أيام على ذمة القضية، وهو ما أثار الرأي العام المحب لفن سعيد صالح، فأُخلِيَ سبيله بعدها، ثم حُكِم عليه بالحبس لمدة أسبوعين، وكان قد قضاهما أصلا أثناء نظر القضية.
أما سجنه الأكثر إيلاما فبعد ذلك بسنوات. وهو ما يثير بعض الأسئلة؛ فقد كان كثير من الفنانين يدمنون الحشيش وقتها، حتى إن سعيد صالح نفسه صرح بعد ذلك بأنه لو حُبِس الفنانون بسبب تعاطي الحشيش، فلن نجد فنانين في مصر أصلا، لكن لسبب ما، أصرت السلطات المصرية على ملاحقته وسجنه، مرة بتهم الرقابة العبثية، ومرة بتهم تعاطي الحشيش.
ففي شهر تشؤين الثاني/ نوفمبر 1991 قُبض عليه بتهمة تعاطي المخدرات، ثم أُخلِيَ سبيله بعد أيام.
وفي صيف سنة 1995 قُبض عليه مرة أخرى، برفقة أصدقائه، وسُجِن سنةً وغُرِّمَ عشرة آلاف جنيه. يبدو ذلك كله غريبا حقا، لكن الغرابة تزول إذا عرفنا أنه ارتجل في إحدى مسرحياته عبارة شهيرة: "أمي اتجوزت تلات مرات… الأول وكّلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش".
بالطبع، ذاع "الإفيه"، وعرف الجميع أن الرؤساء المقصودين هم على الترتيب: عبد الناصر، السادات، مبارك. فهؤلاء هم الأزواج ما دامت مصر هي الأم، مثلما يردد إعلام السلطة دائما وأبدا.
لم يغب عن فطنة المصريين رائحة التآمر على سعيد صالح، فقدّروه وأحبوا بساطته وروحه الحرة.
لعل من مفاتيح شخصيته ما حكاه عن استقباله خبر وفاة أمه. كان يمثل مع عادل إمام مسرحية "روض الفرج". بعد العرض عزاه زملاؤه، ثم سهر هو وعادل إمام وظلا يضحكان حتى الصباح. سبب ذلك أنه كان شديد التعلق بأمه. وحين رحلت، لم يستطع تجاوز خسارته إلا بمواصلة رسالته في الحياة: "السخرية والمرح".
كان رده على الموت هو مواصلة الضحك مع عادل إمام واستعادة مقالب الحياة التي خاضاها معا. كان ذلك سلاحه ضد الفقد والألم والحزن، وهذا ما قد يفسر رحيله في اليوم الأول من عامه الجديد.
إنه تاريخ رحيل يليق بحياته المليئة بالسخرية والمفارقات العجيبة.