هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هي مجموعة قصص قصيرة
للكاتبة الهندية الأمريكية "جومبالاهيري"، صدرت في أمريكا عام 1999،
وترجمتها إلى العربية مروة هاشم عام 2009 لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
لفتت المجموعة
انتباه القراء والنقاد فور صدورها، برغم كونها العمل الأدبي الأول لكاتبتها، وفازت
بجائزة "البوليتزر" عالية التقدير في أمريكا.
انفردت المجموعة
ببراعة السرد في كل قصة من قصصها التسع، وبعمق المعالجة الفنية للقضية الأساسية
التي تتناولها القصص مجتمعة؛ قضية الهندي المهاجر إلى أمريكا، الذي تتجاذبه
ثقافتان قويتان مختلفتان. بين الثقافة الهندية الشرقية بحمولاتها الفسيولوجية
والسيكولوجية والاجتماعية العميقة الغور، والثقافة الأمريكية المهيمنة بقيم
الحداثة، حددت "جومبالاهيري" ميدان الاشتباك حول المحسوس من المشاعر،
والملموس من أشياء الحياة وتفاصيلها.
هو اشتباك بين
ثقافتين، واحدة تقليدية طقوسية، والأخرى حداثية ليبرالية. اشتباك يقوم على الذكاء
والاحترام الشديد لكلتا الثقافتين، ترسم "جومبالاهيري" أبعاده من خلال
اللقاءات المدهشة، والتجارب الفريدة، التي تجمع شخصياتها الهندية المهاجرة بالأمريكية
المواطنة.
ولا يأخذ هذا الاشتباك
طابع الصراع أبداً، لأن "جومبالاهيري" المدينة في تكوينها الشخصي
للثقافتين معاً، تصنع شخوصها على شاكلتها؛ متحضرة، حسنة النوايا، منفتحة على
الآخر، وإنْ بدرجات متفاوتة من التحفظ والتردد والخجل تمليه المحمولات الثقافية
الثقيلة.
في المنطقة
البرزخية التي يلتقي فيها نهر الثقافة الهندية المهاجرة ببحر المجتمع الأمريكي
شديد الامتصاص لكل رافد، تدور أحداث قصص المجموعة، في مدن نيويورك، وماساتشوستس،
وبوسطن، ورود آيلاند، وكوناتيكت، حيث يهاجر الهنود الطموحين للحصول على تعليم وحياة
أفضل.
تعتني
"جومبالاهيري" بالتفاصيل المجهرية للحياة اليومية للجالية الهندية،
الطعام والملابس والطقوس والمعتقدات واللغة والملامح الجسدية والتقاليد الأسرية
التي تحكم العلاقات الزوجية والأبوية. وتضع شخوصها تحت مجهر مزدوج العدسة، يكشف
تفاعل الشخوص في بيئة المجتمع الأمريكي، فترى الهندي في تفاعله مع الأمريكي،
والأمريكي في تفاعله مع الهندي.
ترصد
"جومبالاهيري" التفاصيل المجهرية في تحولها إلى مشاعر، والمشاعر في
تحولها إلى تفاصيل، وأحداث، ومواقف، وتفاهم أو سوء تفاهم، ونجاح أو خيبة أمل.
وتسلط الضوء على نتائج التفاعلات الإنسانية الهجينة، إيجابية وسلبية، الناجمة عن
امتزاج عناصر متنافرة بتكوينها الثقافي، لكنها تسعى بإخلاص إلى خلق صيغ من
الانسجام والتفاهم.
بفضل ثنائيتها
الثقافية، تمكنت "جومبالاهيري" من بناء قصصها على أساس تعدد زوايا
النظر، فلم تقتصر على تصوير الأمريكي من زاوية الهندي فقط، بل اهتمت بتصوير الهندي
من زاوية الأمريكي، الميزة التي منحت قصصها بعداً كوزموبوليتكيا عابراً للثقافات
برغم أنه شديد الاعتناء بالخصوصيات الثقافية، بل إنه ينطلق من الخصوصيات ليسائلها
ويمتحنها في مخبر قيم الحداثة.
صورة
المهاجر في عين المواطن
في قصة
"منزل السيدة س" تعيش عائلة هندية، عائلة السيد ديكستس، في حي تقطنه
عائلات أمريكية. ويحاول أفراد عائلة ديكستس أن ينخرطوا في المجتمع المحيط، لكن
محاولاتهم تأتي بنتيجة عكسية، لأنهم لا يعرفون التفاصيل الصغيرة الكامنة في داخل
عادات المجتمع المحيط، والتي تعد مفاتيح ضرورية للانخراط فيه. فخروج السيد ديكستس
كل مساء لممارسة رياضة العدو في شوارع الحي، يثير ضحك الجيران لأنه يفعل ذلك
مرتدياً ملابسه العادية وحذاء رياضياً رخيصاً. وعدم قيامه بتشذيب أعشاب حديقة
منزله يثير شكواهم، لأن منزله يشوّه المنظر الجمالي العام للحيّ.
وتتحول
التباينات الثقافية إلى عوائق حقيقية لا يمكن إزالتها، تمنع المجتمع المحيط من
قبول مساعي العائلة المهاجرة للانخراط فيه، منها أن عائلة ديكستس كبيرة العدد،
الأمر الذي يحول دون دعوتهم إلى حمام السباحة الذي تجتمع فيه نساء الحي مع
أطفالهن.
وتبرز صعوبة هذا
العائق حين تدعو العائلة الهندية أطفال الحي إلى حفلة بمناسبة عيد ميلاد إحدى بنات
ديكستس، إذ يجد الأطفال المدعوون أنفسهم في منزل غريب " يفوح فيه عبق البخور
ورائحة البصل، وتتكدس كومة من الأحذية أمام بابه".
وتبلغ العوائق
الثقافية أقصى مداها بمشاعر الخوف التي تعتري الأطفال المدعوين، حين يرون
"قطعة من القماش منقوش عليها صورة لامرأة عارية، حمراء الوجه، لها عينان
بيضاوان، وتحمل في إحدى يدها خنجراً، وتسحق بإحدى قدميها مصارعاً مطروحاً على
الأرض، وتمد لسانها نحو الأطفال".
ولا تفلح
محاولات السيدة ديكستس في تهدئة مخاوف الأطفال بأن تشرح لهم أن الصورة هي للإلهة
الهندوسية "كالي". وبدلاً من أن يجد أطفال عائلة ديكستس قبولاً في
المجتمع المحيط، يصبحون في موضع النبذ والسخرية.
وتبدو المفارقات
الثقافية في قصة "عندما أتى السيد بيرزادة لتناول الطعام" أقل حدة، بفضل
المسحة الليبرالية التي تغلف المجتمع الأمريكي، وتعطي المهاجرين فرصة ممتازة
للاستفادة من نظام التعليم والعمل. لكنّ ذلك لا يعني سماع صوت المهاجر والإحساس
بمعاناته. بل إنّ كياسة المجتمع ودماثته تفرض على المهاجر عبئاً نفسياً مضاعفاً،
لأنه مطالب بالتكيف التام مع المجتمع وعاداته، بصرف النظر عن همومه وانشغالاته
بشؤون وطنه الأصلي.
تدور أحداث
القصة في خلفية الحرب الهندية الباكستانية التي أعقبت انفصال بنغلادش عن الباكستان
عام 1971. وهذه الحرب الواقعة في الطرف البعيد من العالم، لم تترك من أثرٍ في
أمريكا، إلا لدى الجالية البنغالية المهاجرة، خصوصاً السيد بيرزادة الذي تعيش
عائلته في قلب الأزمة في مدينة دكّا، إضافة إلى عائلة صديقه الهندي التي دأبت على
استضافته على العشاء كل يوم خلال لمتابعة الأخبار القادمة من موطنهم الأصلي.
تستمع الطفلة
"ليليا" إلى النقاشات الدائرة بين أبيها والسيد بيرزادة، ويثور فضولها
تجاه تاريخ بلدها الأصلي، وهي المولودة في أمريكا وتدرس في مدارسها مواضيع التاريخ
الأمريكي. وحين تكلفها المعلمة بكتابة بحث عن تاريخ الثورة الأمريكية، تجد
"ليليا" أثناء بحثها في المكتبة كتاباً عن تاريخ الباكستان، فتبدأ
بمطالعته إلى أن تنتبه المعلمة فتطلب منها أن لا تضيّع وقتها في مطالعة كتاب ليس
له علاقة بموضوع البحث.
تجد الشخصيات
المهاجرة نفسها مضطرة إلى كبت مشاعرها فيما يتعلق بهموم وطنها الأصلي، وإخفاء
انشغالاتها بالثورات الدائرة في بلادها، لأن المجتمع الذي تعيش فيه أنجز ثورته منذ
زمن طويل، وصارت الثورات موضوع بحث تاريخي لا يثير لديه قلقاً واقعياً ولا
مصيرياً.
ويعبّر السيد
بيرزادة عن ضريبة الكياسة واللطف التي يجب عليه أن يسديها للمجتمع الأمريكي، فيقول
لصديقه الهندي" تلك السيدة في المصرف تشكرني، والكاشير في المتجر يشكرني،
وأمين المكتبة يشكرني عندما أعيد كتاباً أخّرته، وعامل الهاتف الدولي يشكرني عندما
يحاول توصيلي بدكّا. لا شكّ في أنني سأتلقى الشكر في جنازتي إذا مت في هذا
البلد".
تكمن براعة
"جومبالاهيري" في بثّ المفارقة الثقافية في نسيج الحدث القصصي، من دون
افتعال أو اقحام. وتترك للقارئ أن يتجرّع مرارة الحياة المهاجرة وهو يظنّ أنه
يتذوق حلاوتها.
إن شخصيات
" جومبالاهيري" متفوقة في دراستها، وناجحة في حياتها العملية، ومتمتعة
بإيجابيات الحداثة في مجتمع متطور، من رفاهية في العيش، وجودة في الخدمات
والأنظمة، وعدالة في القانون، ومساواة في الفرص.
لكنّ هذا
المجتمع الذي وضع حلولاً لكل مشاكله، ترك المهاجرين من دون دليل إرشادي في مساحة
التسويات والمساومات التي يتعيّن عليهم تقديمها خلال عملية التكيف الثقافي.